صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 7 أبريل 2017 / 19:07

شعور متبادل

لا أُبرئ ساحة الملتزم إن كان مدمناً على الوصاية، ولكن إذا كنا سنرجمه لما يقترفه من مزايدةٍ على تديّن الناس وأخلاقهم، فلا يصح أن نحمل ضده نفس السلاح

كنت في السنة الثانية من دراستي الثانوية، طفلةً لم تخطو بعيداً عن عيد ميلادها الـ15، حين أعلنت لزميلاتي أني قد قررت الانقطاع عن سماع الأغاني، تماشياً مع ما ظننتها في ذلك العمر الغض صحوةً دينيةً.
وفجأة، تحوّل الفصل الدراسي الحميم إلى حقل ألغامٍ مزروعٍ بالموت في كل شبرٍ منه.

على الرغم من أني لم أفرض قناعتي على أحدٍ، ولم أفسّق أحداً، ولم أجد في محفظتي حتى ثمن العود لأشتريه وأكسره على طريقة دعاة "الروك آند رول"، أصبحت هواية الزميلات المفضلة هي في تصيد "زلاتي" –بحسب تصوّرهن-.

لقد كانت محكمة تفتيشٍ فعلاً، بيد أننا قلبنا معادلتها. فإذا شغلت إحداهن مذياع السيارة، اُنتقد بضراوةٍ لأني "أستمع إلى الموسيقى"، وكأنه قد بات من المفترض مني أن أسد فتحة أذني بالإسمنت لأمنع تدفّق الأصوات المُحرمة. وإذا عرفت كلمات إحدى الأغاني، فيستحيل وفقاً لتصوّرهن الغبي أن أكون قد حفظتها منذ جاهليتي الأولى، أو أن أكون قد حفظت قصيدتها. أما إذا دندنت وحدي، فهنا يقمن القيامة، ولا زلت بعد عقدٍ من الزمن عاجزةً عن فهم منطقهن في هذا الهجوم بالذات!

لقد سمعت الزميلات إعلاني عن "التزامي" وكأنه تصريحٌ غير مباشرٍ بالتفوق والأفضلية، فعملن جاهداً على إسقاطي عن قمةٍ افتراضيةٍ، ليؤكدن لأنفسهن بالمقام الأول بأني أقف مثلهن على ذات السفح المنخفض–وفق تصورهن-.

وأتفهّم تماماً ذلك القلق الذي انتابهن من تبدّلي.
لقد عانين–كما عانيت أنا ولا زلت-من فوقية العديد من مدّعي التديّن. أنا في كوابيسهن كنت إنما أتحضّر لأن أكفّرهن وأستبيح لحومهن، فسعين إلى "تناولي على الغداء" قبل أن "أتناولهن على العشاء". كان لا بد أن يتصرفن بسرعةٍ لينزعن عني "مخالبي"، فيضطربن تارةً بسبب ظهور إنشٍ من رقبتي، ويتباكين تارةً من خشية الله إذا تأخرت عن أداء الصلاة. وبعيداً عن التناقض السافر، فإن عتبي الوحيد اليوم هو على ما يبثه هذا الأسلوب الدفاعي المستفز في لا وعي المُلتزم.

إننا نخبره في غمرة "انتقامنا" الطفولي من بني جلدته بأن التطفل على خيارات الآخرين، ومحاسبتهم، والتشكيك في قناعاتهم وإيمانهم، هو السلوك الطبيعي والمفترض؛ كل ما في الأمر أننا تفوّقنا عليه في هذه المرة، فسرقنا منه مطرقة القاضي، ورميناه في قفص المُتهم.

ولا أجد أفضل من هذا التفسير حين تصمت المحجبة –والتي لم تدّعي الالتزام أصلا، ولكن هذا ما افترضناه عنها- عن سفور الأخريات، وتحترم حرياتهن، ثم تجدهن يشمرن عن سواعدهن ليشبعنها "ردحاً" حين تقرر خرق تصوّرهن الخاص عن ماهية الالتزام، فتقلّص حدود حجابها-مثلاً-، أو تضع الماكياج، أو تمارس التمثيل.

لا أُبرئ ساحة الملتزم إن كان مدمناً على الوصاية، ولكن إذا كنا سنرجمه لما يقترفه من مزايدةٍ على تديّن الناس وأخلاقهم، فلا يصح أن نحمل ضده نفس السلاح.