الثلاثاء 11 أبريل 2017 / 19:14

مصر لم تجدل عيدان السعف!

مصرُ لم تجدلِ السَّعفَ هذا العام، بل سارت دامعةَ العين مكسورة القلب على طريق الألم تُلملم من الطرقات عيدانَ سعف خضراء ملطخة بالدم البريء، منذ أشرق عليها عيدُ السعف أول أمس، الأحد.

في كل عام، يبدأ المصريون هذا الأسبوع بفرح النخيل الطفوليّ، ويختمونه بفرح الأعياد الطفوليّ. هكذا تعوّد المصريون كل عام، من أمدٍ بعيد. تعرفت على طقوس أفراحنا بعيد السعف منذ تكوّن وعيي وأنا طفلة صغيرة في المدرسة. يبدأ الأسبوع بأحد النخيل، فيبدأ معه الفرحُ الطفولي البريء حين نتبارى مسلمين ومسيحيين، في تجميع عيدان السعف الخضراء، ثم نتنافسُ أيُّنا سيجدل الأشكال الأجمل. تيجاناً وخواتم وأساور وزهور لوتس، وقلوباً خضراء، وأشكال حيوانات، نصنعها بجريد النخيل الأخضر كقلوبنا الخضراء التي تحبُّ ولا تكره. ثم ينتهي الأسبوع بيوم الأحد القادم، فنفرح نحن المسلمين مع أصدقائنا المسيحيين حين نشاركهم فرحة عيدهم وانتهاء موسم صومهم الطويل، خمسةً وخمسين يوماً، فنذهب إلى الكاتدرائية، نحن الكتّاب والإعلاميين والشخصيات العامّة، بدعوات رسمية من قداسة البابا لنهنئهم بعيدهم ونشاركهم فرحتهم بانتهاء أسبوع الآلام الذي يتذكرون فيه عذابات السيد المسيح عليه السلام حين سار على طريق الآلام من باب الأسباط إلى موضع كنيسة القيامة في القدس الشريف، ورفعه على الصليب. فنسبّح الَله جميعُنا، وإن اختلف إيمانُنا كمسلمين بأن اللهَ قد رفعه إلى السماء قبل الصلب تكريمًا له عليه السلام، عن إيمان أشقائنا المسيحيين بأنه قد صُلِب عليه السلام وحمل عن البشرية أوزارَها، ثم قيامته من الموات بعد أيام ليصيرً حيًّا أبديًّا؛ وهنا نعود لتلتقي أفكارنا. لكننا، وإن اختلفت رواياتُنا حول صلبه أو رفعه، نلتقي على تقديس هذا الرسول العظيم الذي لم ينخسه الشيطانُ أبدًا وأمّه المُطهّرة عليهما السلام، مثلما نلتقي على المحبة التي تجمعنا كإخوة في الإنسانية وإخوة في العِرقِ والأرض، وإخوة في وحدة المصير.

لكن هذا الأسبوع لم يبدأ بالسعف الأخضر كما تعوّدنا، بل بدأ بالدماء البريئة تسيل من كنائس مصر لتُدثّر بيوتَها وقلوبَ المصريين بالحداد والدموع. أحدُ الشعانين أو أحدُ الزيتونة أو أحدُ السعف، يحتفل فيه المصريون بجدل سعف النخيل تذكارًا لدخول السيد المسيح، عليه السلام، إلى مدينة القدس الشريف، حيث استقبله أهلُها بأغصان الزيتون وجدائل السعف وأغصان الأشجار، وفرشوا تحت قدميه الشريفتين ثيابهم ليسير عليها مُكلّلاً بالمحبة والنصر، كما يليق برسول السلام والمحبة الذي جاء ليعلّم الناسَ كيف يغفرون للمُسيء وكيف يُحبّون العدوَّ من بني الإنسان وإن آذاهم، فيتضامنون معه من أجل محاربة عدو البشرية المشترك: الشيطان.

كنّا أطفالا …. وكبرنا. مِنّا من تمسّك بطفولته فظلُّ ينهلُ من الفرح طوال حياته، ومِنّا من تخلّى عن طفولته فخسر نقاءه، حين تعلم العنصرية والطائفية والفُرقة، ففقد أكبر منح السماء للأرض: الفرح والبراءة. فالحقُّ أن أخطر داعشيٍّ من زماننا الراهن، وأبشع صليبيّ من زمن محاكم التفتيش، وأفظع صهيونيّ يسفح دماء أطفالنا، كان في يوم من الأيام طفلا نقيًّا يملأ قلبَه الفرحُ حين يراقب عصفوراً يزور شرفتَه. لكنه، للأسف، كبُر وتعلّم كيف يقتلُ ويهرق الدماء، ثم ينظرُ إلى السماء ضارعاً، وهو يظنُّ أنه يقدّم لله قرباناً يضمن به فردوس السماء!

تسيرُ مصرُ هذا الأسبوع على طريق الآلام مُثخنةً بالجروح من باب الأمس إلى باب الغد حاملةً صليبَ أحزانها ودماء أبنائها، مثلما سار السيد المسيح طريق الآلام قبل ألفي عام حاملا صليبه الخشبيّ الثقيل، وخطايا لم يفعلها.

حين بكتِ المريماتُ وصبايا أورشليم المنتحباتُ على السيد المسيح وهو سائرٌ على طريق الآلام حاملا صليبه، قام بتعزيتهن طالبًا إليهن أن يبكين على أنفسهن لا عليه. واليومَ أكادُ أسمعُ مصرَ في طريق آلامها تقولُ لبناتها: يا بنات طِيبة، لا تبكينَ عليّ، بل اِبكين على أنفسكن وأولادكنّ.

اللهم نجِّ بلادي وأهلي من الويل الذي حاق بما حولها من دول. اللهم نجِّها من شرور بعض أبنائها المُضلّلين الذين خسروا حياتَهم وآخرتَهم، وأورثونا الدموعَ والحزن. فهي مصر الطيبة وشعبها الطيب كما ذكرت في كتبك السماوية: "ادخلوا مصرَ إن شاء اللهُ آمنين"، "مباركٌ شعبي مصر".