الخميس 13 أبريل 2017 / 20:19

ثلاثية العلاقة بين الملكية والإدارة والتحرير في الصحافة العربية

كادت جريدة "الأهرام" - أقدم الصحف العربية التي لا تزال تواصل الصدور حتى اليوم - ألا تصل إلى قرائها صباح الثلاثاء الماضي، بعد 141 سنة من الصدور شبه المنتظم، كانت خلالها أقل الصحف العربية التي تعرضت لظروف تحول بينها وبين مطالعة قرائها كل صباح، فعلى عكس كثير من الصحف التي عاصرتها أو صدرت بعدها، فإن "الإهرام" لم تتعرض إلا نادراً للمصادرة أو التعطيل، ولم تلق مصرعها كما لقيت غيرها من الصحف العربية حتفها في معارك ضد الأنظمة الحاكمة، أو بسبب انصراف القراء عنها، ذلك أن "الأهرام" - التى وصفها د. طه حسين بأنها ديوان الحياة المصرية المعاصرة - ظلت على امتداد عمرها أكثر الصحف العربية التزاماً بتقاليد الصحافة وأدبياتها، واتسمت فيما تنشره بالاعتدال والرصانة والحياد، ونأت بنفسها عن الدخول في معارك السياسة المصرية، ومع أن ذلك قد عرضها لانتقادات كثيرة، إلا أنه حماها من عواصف السياسة التي قصفت عمر غيرها من الصحف.

أما السبب الذي كاد يحول بين "الأهرام"، وبين الوصول إلى قرائها يوم الثلاثاء الماضي، فلا علاقة له بالسياسة، أو بالصدام مع الحكومة، ولا صلة له بإعلان حالة الطوارئ في أعقاب العملية الإرهابية البشعة، التي أودت بحياة عشرات من المصريين المسيحيين، الذين كانوا يؤدون الصلوات، ولكنه كان يتعلق بخلافات متراكمة بين رئيس مجلس إدارة "الأهرام"، ورئيس تحريرها حول اختصاصات كل منهما، أدى إلى تأخير طباعة الجريدة، إلى أن استطاع أولاد الحلال إقناع الطرفين بأنه لا صلة لهذا الخلاف بحق القارئ المقدس في أن يجد الصحيفة بين يديه في اليوم التالي بصرف النظر عن طبيعة العلاقات بين المسئولين عن إصدارها.

ذلك نوع من المشاكل، لم تكن "الأهرام" - أو غيرها من الصحف المصرية المملوكة للدولة - تعرفه حين كانت هذه الصحف، لا تزال مملوكة لأصحابها، قبل أن يصدر - عام 1960 - قانون نص على نقل ملكية هذه الصحف إلى "الاتحاد القومي" - وهو التنظيم السياسى الوحيد في مصر آنذاك - إذ كانت دور الصحف الأربع الكبيرة التي خضعت لهذا القانون، مملوكة ملكية عائلية، لأسر تشتغل بالصحافة، منها ثلاث أسر من أصول لبنانية هم "آل تقلا" الذين أصدروا "الأهرام" عام 1875، و"آل زيدان"، الذين أصدروا "الهلال" عام 1892، و"فاطمة اليوسف" التي أصدرت "روزاليوسف"عام 1925، وكانت الدار الرابعة هي "أخبار اليوم" - التي أصدرها الأخوان علي ومصطفى أمين عام 1943 - هي الدار الوحيدة التي يملكها مصريون، وكان أصحاب هذه الدور - أو ورثتهم - يجمعون - غالباً - بين الملكية والإدارة والتحرير، وبالتالي لم تكن هناك مشكلة تنازع في الاختصاصات بين الأطراف الثلاثة التي تتولى تيسير أمورها، إذ كانوا يوزعونها بين بعضهم البعض، ويحلون المشاكل التي تنشأ بينهم في الإطار العائلي الذي يضمهم.

وبصرف النظر عن الأسباب التي دفعت عبد الناصر إلى إصدار هذا القانون، ومن بينها أنه كان يريد أن يضع أداة الإعلام الرئيسية التي توجه الرأي العام آنذاك في يد الدولة تمهيداً للإجراءات التي أعلنها بعد عام من ذلك التاريخ بنقل أدوات الإنتاج الرئيسية إلى الملكية العامة، وبدء ما سمي بمرحلة الانتقال إلى الاشتراكية، وأنه فعل ذلك على الرغم من أن تجربة تملك الدولة للصحف، كما تمثلت في إنشاء دار التحرير للطبع والنشر - التي صدرت عنها جريدة الجمهورية عام 1953 - لم تكن ناجحة بالقدر الكافي، فإن قانون تنظيم الصحافة ما كاد يصدر حتى تفجرت مشكلة العلاقة بين الملكية والإدارة والتحرير.

وكانت "دار أخبار اليوم" هى الدور الصحفية التي تفجرت فيها المشكلة، إذ اختير لرئاسة مجلس إدارتها ضابط سابق كان يعمل في مكتب "جمال عبد الناصر" هو "أمين شاكر" بينما عين صاحبا الدار الشقيقان مصطفى وعلي أمين عضوين بمجلس الإدارة، واختار مجلس الإدارة الأول منهما مشرفاً عاماً على التحرير ونائباً لرئيس مجلس الإدارة لـ "شؤون التحرير"، ولكن الاحتكاكات بين رئيس مجلس الإدارة، وبين نائبه سرعان ما اشتعلت وتصاعدت وتبادل الاثنان الاتهام بأن كلاً منهما يتدخل في اختصاصات الآخر، وتحولت اجتماعات مجلس الإدارة إلى ساحة للشجار بينهما، ولاستخدام العبارات الحادة، وكادت تصل إلى الاشتباك بالأيدي في بعض الأحيان: رئيس مجلس الإدارة يتهم المشرف العام على التحرير، بأنه يبدد أموال المؤسسة في صورة منح وهبات يمنحها لبعض المحررين المقربين إليه، والمشرف العام على التحرير يتهم رئيس مجلس الإدارة بأنه يستخدم سلطته المالية والإدارية، بحيث يقتر متعمداً على التحرير، حتى يحول بينه وبين النهوض بمستوى الصحف التي تصدر عن الدار، ويحول دون زيادة إقبال القراء - وبالتالى المعلنين - عليها.. وبتتالي الصراعات، اضطر الرئيس عبد الناصر بصفته رئيساً للاتحاد القومي - ثم الاتحاد الاشتراكي - المالك الصوري للمؤسسات الصحفية - إلى نقل علي أمين كى يتولى رئاسة مجلس إدارة "دار الهلال"، واختيار رئيس آخر لمجلس إدارة "أخبار اليوم" - هو كمال الدين رفعت الذي جمع بين هذا المنصب ومناصب أخرى عديدة، فترك سلطاته كرئيس لمجلس الإدارة لبعض معاونيه، الذين أساءوا استغلالها.

وكان وراء الصراعات على الاختصاصات داخل المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة، بين رؤساء مجالس إدارتها ورؤساء تحرير المطبوعات التي تصدر عنها، سببين رئيسيين، الأول هو أن الفصل التام بين ثلاثية الملكية والإدارة والتحرير في المؤسسات الصحفية مستحيل عملياً، إذ لا بد من تعاون وتفاهم الأطراف الثلاثة على نحو يؤدى إلى نجاح الصحف وإقبال القراء على شرائها وزيادة مواردها وتنمية أصولها، والثاني هو أن ملكية الاتحاد القومي - ثم الاتحاد الاشتراكي - لهذه المؤسسات كانت ملكية صورية، في حين أن المالك الحقيقى لها، هو السلطة التنفيذية التي اكتفت غالباً باختيار من تثق فيهم من الصحفيين لرئاسة مجالس إدارتها أو تحريرها، وفي بعض المراحل وتجنباً لوجع الدماغ، وللصراعات بين الإدارة والتحرير، بدا وكأن الحل الموفق والسعيد هو أن يجمع أحد الصحفيين من أهل الثقة بين الموقعين معاً، فيكون رئيساً لمجلس الإدارة ورئيسا لتحرير المطبوعة الرئيسية التي تصدر عن المؤسسة، وهي تجربة أثبتت نجاحها أحياناً وفشلها في أحيان أخرى!

أما وقد وصلت الأمور إلى الحد الذي كادت فيه هذه الصراعات بين الإدارة والتحرير تقود هذه الصحف إلى حافة الهاوية، وكادت تحول دون وصول أقدم الصحف العربية إلى قرائها يوم الثلاثاء الماضي، فلا مفر من البحث عن حل لثلاثية العلاقة بين الملكية والإدارة والتحرير في الصحف العربية.

وهو بحث لا يبدو في الأفق أنه سهل أو قريب.