من جنازة ضحايا تفجير طنطا(24 ـ محمود العراقي)
من جنازة ضحايا تفجير طنطا(24 ـ محمود العراقي)
الجمعة 14 أبريل 2017 / 20:06

الأحداث الأليمة في مصر.. انتهاك لقيم التّسامح والتّعايش

أدانت الإمارات العربية المتحدة التفجيرين الإرهابيّين الغادرين اللّذين استهدفا كنيسة مارجرجس في مدينة طنطا، والكاتدرائيّة المرقسيّة في الإسكندرية بجمهوريّة مصر العربيّة، وأسفر التّفجيران عن مقتل 43 شخصاً وإصابة 119 آخرين، وهو انتهاك لقيم التّسامح الديني، وقطع جذور الصلة بالدّين الإسلامي الصحيح، ومعاول الإرهاب تسعى لهدم صروحه العظّيمة.

في ظلّ ذلك الحدث، حتماً لا تستند هذه الأحداث الإجراميّة إلى دليل دينيّ يتحمّل ثقله، فالقتل بدم بارد وبأريحيّة عقائديّة هو المشهد الأسوأ في كلّ الأحداث الإرهابيّة، فالقتلة يحتفون بإهدار الدّم وكأنّه طقسٌ من طقوس العبادة، ما أدّى إلى تحوّل مسارات الجماعات بأن تصبح أكثر عنفاً ودمويّةً، فما حدث من تّفجيرات بالمساجد في الفترة المنصرمة - رمضان الماضي- جعل الحليم حيراناً من هول المشهد وصدمته في النّفوس، كانت التّفجيرات سابقاً في التّجمّعات والأسواق العامّة، وأخيراً لا أعتقد أن هناك مكاناً آخراً بعد المساجد والكنائس ودور العبادة.

لحظة مفصليّة يواجه فيها المجتمع المصريّ ذاته، ويراجع أوراقه الوطنيّة، مع الحاجة إلى مزيد من الوحدة والالتحام الشّعبيّ والوطنيّ، لإنّه لن يجدي التّغاضي عن المشكلة، فهناك توجّه فكريّ خطير من قبل الجماعات يهدّد الدّولة عبر شغلها بحروب جانبيّة، وعبر محاولته إشعال الحرائق بالضّرب على عصب التّعايش.

الجماعات الإرهابيّة تعتقد أنّ إشاعة الموت في كلّ مكان ستعيد وجودها أو تثبّت من دعائمها، وهذا المآل الذي وصلت إليه الجماعة الإرهابيّة بكل أطيافها، تريد أن تجعل المنطقة بسببه رهينةً لها او تبعاً لرؤاها، هناك سعي حثيث لخلق فتنة "أهليّة" وتعصب دينيّ في مصر في هذا الوقت الحرج ، لتقويض الدّولة والنّظام عبر إثارة الكّراهية والحروب الأهليّة، وقد مرّ علينا حين من الدّهر، لم تستطع فيه -الجماعات الإرهابيّة- تغيير المنطقة بالقوّة ، ولم تنجح بالتّحريض الدّعائي لتصبح دولةً لها كيانها ومكانتها.

يراد من هذه العمليّات الإجراميّة إلغاء الوجه الحضاريّ السّمح لديننا الحنيف، ومنع قيم التّعايش الإنسانيّ المشترك بين البشر دون تفرقة على أساس الدّين أو اللّون أو الجنس أو اللّغة، وإنكار سنّة التّنوع والاختلاف الّتي هي من سُنن الله الكونيّة، كما قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً".

فالغلظة وسوء المعاملة لن تضطّر غير المسلمين لترك دينهم، وطريقة تعامل لا ترقى إلى خلق الإسلام بل يترفّع الإسلام عنه، كما ترفّع عنه السّلف الصّالح رضي الله عنهم، حماية أهل الكتاب وسلامة دور عبادتهم وممارسة طقوسهم الدينيّة واجب شرعيّ، فتوعّد من يعتدي عليها، كلّ هذا بغية إعلاء حريّة الاختيار، واحترام قيم الاختلاف وعدم إكراه أحد، فالدّين اعتناق حرّ بالأساس مصداقاً لقوله تعالى: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، فقد أكرم النّبي- صلى الله عليه وسلم- أسرى طيء وأكرمهم لكرامة حاتم الطائيّ، الّذي كان على نحلة من نحل المسيحيّة، وقال فيما صحّ عنه صلى الله عليه وسلّم: "إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق".

ولو قلّبنا صفحات التّاريخ، فقد استّطاعت حضارة الإسلام أن تحقّق المعادلة الصّعبة، حينما رفع عمرو بن العاص حينما دَخل مصرالاضطهاد عن الأقباط وأمر بعدم تحّميلهم ما لا يطيقون، والأهم من ذلك إطلاق الحرية الدينية للأقباط، فبعد استيلائه على حصن بابليون، كتب بيده عهداً للأقباط بحماية كنيستهم، الأمر الذي أعطاه شهادة حية على سلوكه الحضاري المتسامح الذي أكدته قراراته الحكيمة تجاه كل المستجدات التي واكبت أحداث الفتح الإسلامي.

و"العهدة العمريّة" واحدة من أهمّ الوثائق في التّاريخ وأقدم الوثائق في تنظيم العلاقة بين الأديان، العهدة العمريّة هي كتابٌ كتبه الخليفة عمر بن الخطّاب لأهل إيلياء (القدس) عندما فتحها المسلمون عام 638 للميلاد، فقد أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمهم وبريئهم وسائر ملّتهم أنّه "لا تُسكن كنائسهم ولا تُهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود"، بهذه الوثائق الإسلامية مُهد لتواصل مستقبلي خلال الحقب التاريّخية المتلاحقة، لإيجاد أرضية صالحة لتعايش إنساني يوفر الظّروف لحياة بعيدة عن التّعصب المقيت ونبذ الآخر كما أنه بين عظمة الإسلام ومدى عدله وإنصافه في معاملة الآخر.

وهذه الأحداث الدّامية تضع المسلمين أمام واقع مرير وبائس يشوّه هويّتهم ويضعف مكانتهم بين شعوب العالم، ويجب تفكيك هذه الثّقافة الآثمة وإظهار عوارها، فالتّحدي الحقيقيّ للأوطان العربيّة كيف يمكن أن يكون المواطن شريكاً صالحاً في وطن يحارب الإرهاب والتّطرف، مهما كثر الحديث حول التّسامح والتّعايش وفضائل المواطنة؟!

أجمع فقهاء المسلمين قديماً وحديثَا على حرمة استهداف دور العبادة، لأنّ التّطرف والإرهاب ينالان من قيم التّعايش بين الثّقافات والدّيانات والحضارات المختلفة، لهذا يعدّ الاعتداء على الكنائس ودور العبادة نقضاً لميثاق المواطنة الصّالحة، قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوفُوا بِالعُقُود".