الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.(أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب إردوغان.(أرشيف)
الإثنين 17 أبريل 2017 / 18:08

استفتاء أردوغان.. وداعاً لتركيا الديمقراطية

تعليقاً على نتائج استفتاء يوم أمس الأحد الذي صوت فيه الأتراك بـ "نعم" لصالح التعديلات الدستورية، لفت الكاتب الأمريكي ستيفن كوك، في مقال تحليلي مطول نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية، إلى أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لم يحرز الانتصار في هذا الاستفتاء الدستوري فحسب، وإنما أسدل الستار بشكل دائم على التاريخ الحديث لبلاده التي كانت تتطلع نحو الديمقراطية والحداثة.

أردوغان يستلهم نهجه الاستبدادي من التاريخ العثماني، وثمة جوانب من حكمه تتشابه مع تلك الحقبة الزمنية،

واستهل كوك مقاله بالإشارة إلى مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس الجمهورية التركية الحديثة)؛ الذي أنشأ في عام 1921 المجلس الوطني العظيم الذي أصدر القانون الأساسي، ثم ألغى الخلافة العثمانية وأعلن قيام الجمهورية التركية لتقوم على أسس حديثة ويتم إدارتها من قبل السلطات التنفيذية والتشريعية وكذلك مجلس وزراء يتألف من ممثلين منتخبين للبرلمان، وبذلك انتقلت السلطة السياسية، التي كانت في يد السلطان العثماني، إلى المشرعين الذين يمثلون سيادة الشعب.

زعزعة الاستقرار السياسي
ويرى كوك أن استفتاء الأحد يتجاوز توسيع السلطات الرئاسية للرئيس التركي أردوغان؛ إذ إن الأتراك الذين صوتوا بـ "نعم" لصالح التعديلات الدستورية كانوا يسجلون معارضتهم للحداثة التي سعى أتاتورك إلى تحقيقها في الدولة التركية. وعلى الرغم من أن المعارضة لا تزال ترفض نتائج التصويت، فإن الجمهور التركي قد منح أردوغان وحزب العدالة والتنمية "رخصة" لإعادة تنظيم الدولة التركية وهدم القيم الأساسية التي بُنيت عليها. وحتى مع تراجع معنوياتهم بسبب الهزيمة، فإن المعارضين للتعديلات الدستورية سوف يقاومون مشروع أردوغان، ومن ثم يمكن القول إن حملات التطهير التي بدأت منذ محاولة الانقلاب الفاشل في منتصف يوليو (تموز) الماضي ستستمر، بما في ذلك المزيد من الاعتقالات، الأمر الذي سيقود إلى زعزعة الاستقرار السياسي لتركيا.

حزب العدالة والتنمية
ويشير كوك إلى تبني الإسلاميين الأتراك لأمجاد الدولة العثمانية كوسيلة للتعبير عن ازدرائهم للجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك، وأبرزهم الزعيم السياسي السابق نجم الدين أربكان الذي قاد في أواخر الستينات الحركة التي أسفرت عن ظهور حزب العدالة والتنمية في عام 2001؛ إذ كان يعتقد أن أفكار آتاتورك خاطئة كما أن المكان الطبيعي لتركيا ليس في مقر الناتو في بروكسل، وإنما يجب أن تكون تركيا زعيمة للعالم الإسلامي.

وكان أردوغان وعبد الله غول من أتباع أربكان، ولكنهما قررا الانفصال عنه وإنشاء حزب العدالة والتنمية والتخلي عن الخطاب المناهض للغرب الذي كان ينتهجه أربكان، والتزما بترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي. وصنع قادة الحزب لأنفسهم صورة المسلمين المعتدلين الذين يسعون إلى الديمقراطية، ولكنهم لا يزالون يحتفظون بالأفكار الإسلامية التقليدية حول دور تركيا في قيادة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي.

ومع تحفظات المفكرين في حزب العدالة والتنمية، ومنهم رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، حيال مدى توافق المؤسسات السياسية والاجتماعية الغربية مع مجتمعهم الذي يغلب عليه الطابع الإسلامي، فقد عمد قادة حزب العدالة والتنمية إلى عدم التركيز على هذا الأمر، وبدلاً من ذلك جرى تقويض إرث أتاتورك في مختلف جوانب الجمهورية التركية.

السلطان العثماني الجديد
ويعتبر حزب العدالة والتنمية والمؤيدون للتعديلات الدستورية أن الانتقادات الموجهة لتلك التعديلات "غير عادلة"؛ لاسيما أنها لا تقوض البرلمان المنتخب شعبياً ولا الرئيس ولا القضاء المستقل (على الأقل رسمياً). وكل هذا صحيح، بحسب كاتب المقال، ولكنه أيضاً يُعد وصفاً ضيقاً للغاية للنظام السياسي الذي يتصوره أردوغان، خاصة أن السلطات التنفيذية الممنوحة للرئيس ستكون واسعة جداً بما في ذلك تعيين قضاة دون تدخل البرلمان وإصدار قوانين وحل البرلمان، وسيكون للرئيس أيضاً الحق الحصري في جميع التعيينات للوظائف العليا، علاوة على السيطرة الحصرية على القوات المسلحة. كما تلغي التعديلات الدستورية منصب رئيس الوزراء، وإذا كان الرئيس ينتمي إلى الحزب الفائز بالأغلبية في البرلمان، فإن السلطات الرئاسية ستكون غير مقيدة، ومع غياب أي رقابة على رئيس الدولة الذي سيصبح أيضاً رئيس الحكومة، فإن الموافقة على التعديلات الدستورية تمنح أردوغان سلطة لم يحصل عليها أي رئيس تركي من قبل منذ السلاطين العثمانيين، والواقع أنها تجعله "السلطان العثماني الجديد".

طموحات أردوغان

ويوضح كاتب المقال أن طموحات أردوغان قد دفعت تركيا للوصول إلى هذه النقطة، والتي لن تتوقف عند حصوله على السلطة؛ حيث يسعى الزعيم التركي إلى تحقيق رؤيته لتحويل تركيا إلى دولة "إسلامية" قوية ومزدهرة تتمسك بالقيم المحافظة والدينية التي يجب أن تشكل سلوك وتطلعات الأتراك في حياتهم. وثمة إشكالية في أن أردوغان مقتنع تماماً أنه الشخص الوحيد الذي يتمتع بالمهارات السياسية والأخلاقية لتحقيق هذه المهمة، ولذلك يحتاج إلى قيادة الدولة والسيطرة على جميع السلطات.

وقبل استفتاء يوم الأحد، خاض أردوغان محاولات عديدة لتوسيع سلطاته وتحويل النظام البرلماني إلى رئاسي ولكنها باءت بالفشل؛ إذ أعلن في عام 2011 أن تركيا سيكون لها دستور جديد في غضون عام، بيد أنه بحلول عام 2013 كانت اللجنة البرلمانية المشتركة بين الأحزاب المكلفة بكتابة وثيقة الدستور الجديد قد وصلت إلى طريق مسدود، ومن ثم انتظر أردوغان حصول حزب العدالة والتنمية على أغلبية البرلمان لتمرير الدستور الجديد من دون تدخل الجمهور، ولكن نتائج الانتخابات البرلمانية في عام 2015 وعدم حصول حزب أردوغان على الأغلبية، كما كان يأمل، أجبرته على إجراء استفتاء يوم أمس الأحد على التعديلات الدستورية.

حملات تطهير
ويوضح كاتب المقال أنه من أجل حشد التأييد للتعديلات الدستورية عمد أردوغان إلى إثارة شبح عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي وعجز الحكومة التركية عن إدارة التحديات في البلاد، فضلاً عن موجة الهجمات الإرهابية من قبل الأكراد، وكلها أمور تعكس رسالة مفادها أن النظام الرئاسي الذي يطمح إليه أردوغان بات أمراً مُلحاً. ومن ناحية أخرى، قام أردوغان بتصفية معارضيه في حملة تطهير واسعة بدأت حتى قبل محاولة الانقلاب الأخيرة الفاشلة؛ إذ تم تفكيك حركة غولن وإسكات الصحفيين من خلال الاعتقال والسجن والتهديدات الأخرى من أجل شن حملات لدعم التصويت بـ "نعم" في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، ولعب أردوغان على المشاعر القومية من خلال الأزمات المصطنعة مع الحكومتين الهولندية والألمانية بشأن التجمعات المؤيدة لحزب العدالة والتنمية في بلدانهما.

ويتساءل كاتب المقال عن السبب الذي يحض أردوغان على إضفاء الشرعية على التعديلات الدستورية، خاصة في ظل ممارساته القمعية والسلطوية والاستبدادية التي يمارسها فعلاً حتى قبل إجراء استفتاء يوم الأمس الأحد لتوسيع سلطاته التنفيذية في البلاد، ويجيب قائلاً: "إلى جانب حقيقة أن المستبدين يرغبون في إدراج ممارساتهم غير الديمقراطية في النظم القانونية؛ من أجل الإدعاء بأنهم يحكمون بموجب سيادة القانون، فإن أردوغان يحتاج إلى الغطاء القانوني لمتابعة تنفيذ جدول أعماله التحولي الأوسع نطاقاً، ويبدو أن السبيل الوحيد لإدراك ذلك يتمثل في أن يجعل نفسه سلطاناً".

نهج أردوغان العثماني
ويضيف كاتب المقال أن أردوغان يستلهم نهجه الاستبدادي من التاريخ العثماني، وثمة جوانب من حكمه تتشابه مع تلك الحقبة الزمنية، فعلى سبيل المثال يعتمد الرئيس التركي على مجموعة صغيرة من المستشارين بمن فيهم أفراد أسرته، وبات قصره الرئاسي في أنقرة (الذي بناه على أرض كانت مملوكة من قبل أتاتورك) يحاكي قصور السلاطين العثمانيين. ولا يدخر أردوغان جهداً في هدم الجمهورية التي أسسها أتاتورك؛ لأنه عانى الكثير (هو وطبقة المحافظين الأتراك) على أيدي هؤلاء الذين كانوا يدافعون عنها، ولذلك يعتبر أردوغان وأنصاره أن عصر حزب العدالة والتنمية هو الحقبة الذهبية التي يتمتع فيها الأتراك المتدينون والطبقة الوسطى بالحريات الشخصية والسياسية التي حرموا منها، ولاشك في أن هؤلاء يتطلعون إلى تحقيق إنجازات أكبر في ظل حصول أردوغان على الرئاسة التنفيذية بموجب نتائج استفتاء يوم أمس الأحد على التعديلات الدستورية.

لا ديمقراطية في تركيا

ويختتم كاتب المقال بأن تاريخ الجمهورية التركية "معقد"؛ فعلى الرغم من الإنجاز الهائل في غضون القرن الماضي وتحول المجتمع الزراعي الذي دمرته الحرب إلى قوة مزدهرة تمارس نفوذاً في منطقتها وخارجها، فإنه يمكن القول إن تاريخ تركيا الحديث كان أيضاً غير ديمقراطي وقمعياً وأحياناً عنيفاً، ولذلك يبدو من المنطقي أن يسعى أردوغان إلى توسيع سلطاته الرئاسية للحيلولة دون وقوعه ضحية للنظام الجمهوري. والواقع أن أردوغان في نهاية المطاف يقوم باستبدال نظام استبدادي بآخر، بيد أن الجمهورية التركية التي وضع أسسها أتاتورك كانت تعبر عن الحداثة وتتطلع إلى الديمقراطية، أما تركيا أردوغان الجديدة فقد أسدلت الستار على هذه الطموحات إلى الأبد.