الإثنين 17 أبريل 2017 / 20:04

حديقة الستين.. محنة المعنى

"حديقة الستين" مجموعة جودت فخر الدين الأخيرة تمتّ كثيراً إلى عنوانها.لا أقصد بذلك العمر أو الزمن، كما لا أقصد بذلك الطبيعة، رغم أنّ في المجموعة كلاماً وافراً عن العمر وعن الطبيعة، الحديقة والأشجار وأصص الزرع. إلاّ أنّ ما أعنيه هو هذه المقابلة بين الزمان وهو محض فكرة وبين الأشياء المعاينة، ولا يخفى أنّ الزمان هو عمر الشاعر وأنّ الحديقة في بيته وأنّ الشعر يتوزّع في المجموعة بين لقطات مسرعة وأسئلة معلّقة. ففي "حديقة الستين" القصيدة الأولى في المجموعة، نقرأ مقطّعات بعناوين متفرّقة اجتمعت تحت العنوان الرئيس ولا بأس من أن نعددها، فقد يعيننا ذلك على استجلاء ما دعا الشاعر إلى أن يجمع الديوان تحت هذا العنوان الذي يطلقه على القصيدة الأطول التي امتازت، فوق ذلك، بهندستها التي جعلت منها بضعة مقاطع وبضعة عناوين في قصيدة واحدة .

"نجاة"، "سماء وأشجار"، "سور"برهة"، "قبر أبي"، "باحة العيد"، "مقعد الشمس"، "صورة الصوت"، "بيت". نلا حظ أنّ هذه العناوين تجمع أشتاناً لكنّ قاسماً بينها هو أنّها كلّها خالية من أل التعريف، لا خصوصيّة لأيّ منها، البيت قد يكون أيّ بيت، والسور هو مطلق سور، كذلك هو الصوت والبرهة والشمس والعيد. هكذا يتكلّم جودت فخر الدين عمّا لا نشكّ بأنّه يخصّه، البيت قطعاً بيته كما أنّ الستين عمره. لكنّ جودت، وهذا أسلوبه، ينكّر ما يخصّه. إنّه يروي سيرته يصيغة الغائب أو بما يشبهها، وحين يقول "أنا"، وكثيراً ما يقولها، يضعها في أسلوب سرديّ يجعلها لا تفترق كثيراً عن "هو" فهو تقريباً الراوي لحياته ولنفسه، وفي ذلك يؤثر السرد على الغناء، وبالأحرى التغنّي. يؤثر أن يخبر عن نفسه كما لو كانت شخصاً آخر، يضعها تحت موجة من التساؤلات، ويروح يسائلها ويناقشها، وأحياناً يحاسبها. هي بالنسبة له بعيدة، أوعلى الأقّل، مواجهة.

ليست بالنسبة له إلاّ موضع حيرة، وما تتعلّق به أوتعايشه ليس أقلّ ابتعاثاً للحيرة منها.هي بالطبع ليست ماثلة للمديح أوالرثاء، شاعرها ليس مهووساً بها وليس عارفاً لها وليس متيقّناً منها إلى درجة أن يجعل منها نشيداً مجلجلاً أو تهويلاً لفظياً أو إحتفالاً أوهديراً عالياً.

جودت فخر الدين هكذا لا يرفع صوته فوق فكرته .إنّه يسأل ويفصّل ويتحدّث أو يدير الحديث موجزاً، لكن متسلسلاً ومتتابعاً تشعر بسلاسته وقربه بل وإحكامه، بدون أن تحس بأن صاحبه يخرج من صيغة السؤال والحيرة فيه وصيغة التأمل والاسترسال فيه والكشف البطيء عن معنى يبقى على الحافّة فلا يتحول يقيناً، ولا يفوتك أنّ الشاعر وهو يحاور نفسه ويحاور الأشياء، إنّما يتوسّل المعنى أن يظهر ويداوره أحياناً ليظهروا يختطّ ليغريه بالظهور ويجلس في إنتظاره أو يتحرّك في إنتظاره،ويحاول أن يصطاده ولو أدّى هذاإلى تجزئته وتفريعه إلى مسائل وموضوعات وصورولحظات تقوم بنفسها وتظهر مالكة مكانها سيّدة فيه، كما هي الأشياء في لوحات الطبيعة الصامتة، تتوزّع القصائد إلى لحظات ولقطات تتكشّف عن معان تترسّم داخل الحيرة والتساؤلات، معان نشعر بأنّها تكاد تتّم تحت سقف السؤال وفي حضوره، إذ لا نتميّز هنا الحقائق من الأسئلة ويصحّ أن تزدوج هذه وتلك.

أسمع الصوت الذي ينساب منّي
غيره أصبحت لا أسمعه،
سمعي، وإن خفّ قليلا، صار كالمصفاة،
يدري كيف يستقبل أو يحجب، يدري كيف يحمي نفسه في غابة الأصوات،
يدعوني إلى الإصغاء،
أو يبعدني عن كلّ صوت لا أرى صورته
في قاع نفسي
صورة الصوت إذن
هل بات سمعي حارساً لي

نلاحظ هنا كيف تخرج الصور من بعضها، وكم نحسّ أنّ الشعر يتناسل من نفسه، لكن ّهذا يتوالد لا من الفكرة الفانتازيّة، بقدر ما يتسلسل في الأسلوب السردي، ففخرالدين الذي ينكّر نفسه في الشعر هو أيضاً الّذي ينكّر شعره بالسرد الّذي، وهو ينبض بالتساؤلات، يتنفّس من بيت إلى بيت، ومن مقطّع إلى آخر، يتواصل من قصيدة إلى قصيدة وكأنّه نصّ واحد.