مصريون يحتفلون بشم النسيم (أرشيف)
مصريون يحتفلون بشم النسيم (أرشيف)
الثلاثاء 18 أبريل 2017 / 18:16

ماذا قالت مصرُ للمصريين أبناء الحياة؟

حتى وإن مرّ علينا عيدٌ في إثر عيد، دون أن يدخلَ الفرحُ قلوبَنا. حتى وإن توالتَِ الأعيادُ على مصرَ، ومصرُ قلبُها مجروحٌ ينزف. حتى وإن مرَّ الأمسُ بعيد "شمّ النسيم" ونحن المصريين حزانى، لأن مصرَ حزينةٌ. لكن الثابتَ، رغم هذا، هو أن المصريين أبناءُ الحياة، لا أبناء الموت. مصرُ حزينةٌ موجوعةُ القلب، مقروحةُ الجفن، لأن أبناءها يقتلون أبناءها! لكنها نادت من فوق الهرم بصوت حاسم جسور: "قاتلُ أخيه فيكم، ليس مِنّي. فأنا لا أنجبُ الحوشةَ والسِّفلة. بريئةٌ أنا من نسَب كل غادر ومن كل قابيل. نِيلي وطمي أرضي مُحرّمان على كلِّ خائن جبان. مباركٌ شعبي، ومَن يدخل مصرَ آمنٌ. القاتلُ ليس من نسلي، أنا الأرضُ التي ابتكرت فنونَ الحياة، وخصّتها بيوم فريد، توّجتُه أولَ الزمان. جعلت من نهاره موسمًا للخلق، ومن غروبه مهرجانًا ملوّنًا يسامرُ فيه شعبي نسائم الطبيعة ليحتفل معها بفنّ صناعة الحياة والخصب، وعبقرية الحضارة. أبنائي هم أبناء الحياة".

تعلّم المصريُّ القديم أن يحدّد بداية السنة الشمسية باليوم الذي يتساوى فيه الليل والنهار طولا، وقت حلول الشمس في برج الحمل. كان يؤمن أن بداية خلق العالم كانت في ذلك اليوم الربيعي الفريد، ٢٥ برمهات. ولهذا اعتبره المصريون أول الزمان. وهو يوم الأمس، عيد شم النسيم، الذي اعتبروه أول الربيع وغُرّتَه. كانوا يقيمون فيه مهرجانًا ضخمًا صاخبًا يملأ الدنيا أغاني وألوانًا ومرحًا. لهذا أيضًا اختار بنو إسرائيل ذلك اليوم تحديدًا، والمصريون مشغولون بعيدهم وصخبهم، ليخرجوا مع النبيّ موسى عليه السلام، من مصر الفرعونية إلى أرض الكنعانيين. فاعتبره اليهود رأسًا لسنتهم الدينية العبرية، وأطلقوا عليه اسم عيد "الفصح"، وهي كلمة عبرية تعني "الخروج" أو "العبور"؛ ويعتبرونه عيدًا للتحرر من العبودية بخروجهم مصر إلى حيث خرجوا، كما قرأنا في سِفر التكوين. وحين دخلت المسيحيةُ مصرَ، كان عيد "شمو"، الذي تحوّر اسمُه إلى "شمّ النسيم"، يقع أحيانًا، بسبب التقاويم المصرية والميلادية، في وسط فترة صيام المسيحيين الخمسة وخمسين يومًا التي تنتهي بأسبوع الآلام، فجعل المسيحيون ذلك العيد في اليوم التالي لعيد القيامة، حتى يتسنى للمصريين الاحتفال فيه بأكل الأسماك والبيض الملوّن، الذي يرمز في الأدبيات المصرية للخلق والحياة، وبداية تكوين الكائن الحي من العدم.

قبل خمسة آلاف عام، كان المصريون القدامى يحتفلون بذلك اليوم، "شم النسيم"، بإقامة مهرجان رسمي هائل، يحتشدون فيه أمام الواجهة الشمالية للهرم الأكبر، قُبيل الغروب. ثم يشخصون نحو قرص الشمس البرتقاليّ وهو يميل بالتدريج غاربًا مقتربًا من قمة الهرم. حتى تستقرّ الشمسُ جالسةً فوق ذؤابة الهرم كأنما تُتوّجه. هنا تحدث ظاهرة فلكية مدهشة، حين يخترق شعاعُ الشمس واجهةَ الهرم، فكأنما يشطره نصفين، في مشهد أسطوري دراماتيكي. استطاع عالمُ الفلك البريطاني "بركتور" رصده وتصوير لحظة انشطار واجهة الهرم عام ١٩٢٠، وفي عام ١٩٣٤ سجّل تلك الظاهرة الفريدة العالمُ الفرنسي "بوشان" عن طريق الأشعة تحت الحمراء.

شمّ النسيم هو أقدمُ مهرجان شعبيّ في التاريخ يحتفل بالحياة وعبقرية الخلق من العدم. فالمصريون أكثرُ شعوب الأرض حبًّا للحياة واحتفاءً بها. لهذا اختاروا له الربيعَ تاجًا، لأن فيه تتفتح الزهورُ لتعلن عن ميلاد جديد. يبدأون احتفالَهم مع شروق الشمس، فيُلوّنون البيضَ، فكأنما يلوّنون الحياةَ. فالبيضةُ رمزُ الحياة التي تُخرِجُ الحيَّ من الميّت. لأن الكتكوتَ المفعمَ بالحياة والدهشة، يخرج من كهف جامد صلد يوحي بالموات، مثلما تخرجُ اليرقةُ من شرنقة الحرير، فتطيرُ وتملأ الفضاء حياةً وفرحًا.

المصريون أبناءُ ثقافة الحياة. ليس منّا من يُهرق الدماءَ البريئة على بُساط أرضها ليكسو الوجوهَ بالحَزَن. ليس مّنا مَن يُثكِّل الأمهاتِ ويُرمّل الزوجاتِ ويُيتّم الأطفالَ. ليس مِنّا من يأتزر بالسترات الناسفة ليقتل أبرياءَ يُصلّون إلى ربّهم خاشعين صائمين. ليس منّا من يُدثّر البيوت بثياب الحداد. انهضي يا مصرُ من كبوتك.