الأربعاء 19 أبريل 2017 / 18:14

القانون والقوة والعدالة

عِبَارة إنفاذ القانون بالقوة أو قابلية القانون للإنفاذ، يشرحها جاك دريدا هكذا. هناك إشارة ضمنية إلى أن القوة تأتي من داخل العِبَارة. القانون هو عنف مُفوَّض، عنف يُبرر ذاته، وهو مُبرَّر في التطبيق ذاته، حتى لو كان هذا التبرير قد حُكِمَ عليه من موضع آخر بأنه غير عادل أو غير قابل للتبرير.

يُشدد جاك دريدا على أن لحظة التأسيس الأولى للقانون لم تكن عادلة أو غير عادلة. ظهرتْ القوة في لحظة التأسيس الأولى تحت وطأة الضرورة أو حتى الصدفة. ضربة حادة تقطع وتُمزِّق. ربما دافع المحافظون عن مبدأ الضرورة، ودافع الأناركيون عن مبدأ الصدفة. دارتْ أبحاث أفلاطون السياسية في محاورة الجمهورية حول فكرة العدالة. كلمة العدالة في نظر اليوناني القديم، تضم داخلها عدداً كبيراً من المعاني التي تشمل ميداني الأخلاق والسياسة بأسرهما، والعادل هو الشخص الذي يتصف بتلك المجموعة من الفضائل التي بها تنتظم بها الحياة البشرية، الخاصة والعامة، على نحو أفضل. كانت مواقف الفلاسفة تتحدد تبعاً لطريقة إجابتهم عن هذا السؤال الرئيسي المتعلق بطبيعة العدالة، فإذا كانوا من المحافظين، اتجهوا إلى الربط بين معنى العدالة ومعنى الأزلية والثبات، وإذا كانوا ذوي نزعة ثورية ديموقراطية، اتجهوا إلى الدفاع عن المفهوم النسبي المتغير للعدالة. أفلاطون هو صوت سقراط في محاورة الجمهورية، صوت الثبات والاستقرار، والسوفسطائيون هم صوت الأناركية الثورية الفوَّارة.

في قصة فرانز كافكا "أمام القانون"، هناك باب القانون المفتوح، وعليه حارس، وهناك أيضاً الرجل الريفي البسيط الذي يريد الدخول، لكن الحارس ينبه الرجل الريفي، أن بالداخل حُرَّاساً آخرين أقوى منه. الحارس لا يمنع الرجل من الدخول إلى القانون، لكن ليس الآن، ربما لاحقاً. يأتي الحارس بكرسي للرجل الريفي. بجوار باب القانون المفتوح، يجلس الرجل منتظراً سنوات، وعند اقترابه من الموت، يسأل الحارس سؤالاً أخيراً. لماذا لا يقصد القانون ناس آخرون؟ وتكون إجابة الحاس بأن هذا الباب يخص الرجل الريفي وحده، وهو الآن سيغلقه بموته. هناك احتمالان لقصد الرجل الريفي باب القانون المفتوح، الاحتمال الأول، هو طلب الاستشارة القانونية في أمر ما، والاحتمال الثاني، هو تسليم النفس لتنفيذ عقوبة ما.

لا يفصح كافكا عن غاية الرجل الريفي من الذهاب إلى القانون. في الواقع المُعاش يحدث بشكل شبه دائم، أن القانون هو الذي يذهب للقبض على الجاني. القاعدة تقول بأن الخارج على القانون لا يذهب إليه. الاستثناء الكافكاوي فريد في حدوثه. هناك شك بأن الاستشارة القانونية كانت غاية الرجل الريفي. طريقة انتظاره الأبدي على باب القانون، توحي بأن هذا الرجل الريفي ليس بسيطاً كما يبدو، وأن غايته ساخرة سوداء، غاية راديكالية، غاية جذرية، غايته تحطيم معاني التأسيس الأول للقانون التي وصفها جاك دريدا بأنها ليستْ عادلة أو غير عادلة. ولأن غاية الرجل الريفي فردية، أناركية، ثورية، فمن الطبيعي أن يتخذ القانون الإجراءات الوقائية التي تحول دون هدمه. ولأن منتهك القانون هو فرانز كافكا، وهو ليس عادياً، فإن العقاب أيضاً ليس عادياً.

يقدم أفلاطون في الكتاب الأول من محاورة الجمهورية، تعريفاً للعدالة على لسان ثراسيماخوس. "إن العدالة ليست إلا صالح الأقوى". ثم يُفصِّل النظرية فيقول: الحكومات تسن القوانين، وتعلن أن ما هو مشروع وعادل بالنسبة إلى رعاياها إنما هو ما فيه صالحها هي بالذات، وتعاقب مَنْ يُخالف ذلك على أنه، خارج عن القانون والعدالة. للعدالة معنى واحد في جميع الدول، وهو صالح الحكم القائم. ولمّا كان المفروض ضرورةً، هو أن الحكومة هي الأقوى، فالنتيجة الوحيدة المعقولة، هي أن مبدأ العدالة واحد في كل شيء، وهو صالح الأقوى. واستعرض المفكر المصري الراحل فؤاد زكريا، وهو أحد شُرَّاح أفلاطون، رأياً آخر. إن المفاهيم الأخلاقية والنظم القانونية، بقدر ما تدعي أن لها إلزاماً خُلقياً، ليستْ إلا ظواهر ثانوية مصاحبة، وتعبيرات عن قوى اقتصادية واجتماعية بالفعل في الدولة. معنى هذا أن القانون فيما يدعيه لنفسه من عنصر أخلاقي، أي باختصار ما نسميه العدالة، إنما هو حصيلة الجهد الذي يُبْذَل للمحافظة على امتياز حاضر أو مستقبل، امتياز يُنْتَزَع بالقوة، ويتم تحويله من امتياز إلى قيمة أخلاقية ثابتة. ويصل أفلاطون في كتابه الرابع من المحاورة إلى أن أعظم كمال للدولة، هو الوصول إلى أن كل الرجال والنساء والأطفال والصُنَّاع والحاكمين والمحكومين، يؤدي عمله دون أن يتدخل في عمل غيره، ومن جهة أخرى، فإن المبدأ الذي ينبغي أن يتمسكوا به في أحكامهم على الدوام، هو المبدأ القائل، إن أحداً لا ينبغي أن يعتدي على ما يمتلكه الغير أو يُحْرَم مما يمتلكه هو. العدالة هي أن يمتلك المرء ما ينتمي إليه.