الكاتب يوسف الشاروني.(أرشيف)
الكاتب يوسف الشاروني.(أرشيف)
الأحد 23 أبريل 2017 / 19:54

يوسف الشاروني وثقافة الغبن

كانت قصصه التي اختطّ فيها طريقاً خاصّاًـ تبدو تقديماً لأفراد غارقين في مسائل خاصة هي تورّط في العالم وإنسداد أفق وعبث مجاني وسخرية عابثة

 كنت التقيه في السنوات الأخيرة في قاعات الملتقيات الأدبيّة جالساً وحده غالباً لا يحيط به أحد، لكنّه على عصاه يحمل قامة نحيلة وجسداً أفتى ممّا تحمله سنواته التسعون. كان يبشّ لي ويتركني أتساءل ماذا يدور في سريرة الشيخ، ألا يشعر بالغضب وهو يجد نفسه مهجوراً أو شبه مهجور. ماذا يجرّه إلى ملتقى أدبي يبقى فيه وحيداً وربّما منسيّاً. هذا بالطبع عالمه لكنّه لا يحظى فيه بما تستحقه قامته الأدبيّة وتاريخه وربّما سنّه.

تأخّرت عن قراءة يوسف الشاروني، صرفتني عنه شواغل إعتباطيّة، في شبابي كنت أحرص على تجنّب المنظورين، ونشتبه في أنهم أفردوا لحاجة إلى نجوم وأسماء بارزة تراعي ثقافة معتدّة بنفسهاعن حق فهي ناشطه وهي مسموعة منتشرة في كل المحيط العربي وتكون مع بلد صغيرآخر أرومة الثقافة العربية، لكن تواتر الأسماء قد يتم لسبب يعود إلى علاقات أصحابه وقد تتداخل فيه عوامل اجتماعيّة وقد يعود هذا إلى حميتهم كأشخاص. المهم أن يوسف الشاروني بقي مجهولاً مني إلى ان وقعت في يديّ أنطولوجيا صدرت عن دارالريّس، أظن أن الشاروني انتقاها. عكفت على قراءتها مدهوشاً من أن كاتباًعربياً لا يشبه احداً، ويكاد ينفرد في جيله، قصصه التي بعضها روايات قصيرة تجاري كافكا وإلى حد إدغار آلن بو بنفس قوتها وبنائها.

هكذا كنت أمام كاتب يشبه أكثر ما يأتينا من الغرب وأثر كافكا واضح فيه. يذكّر في قصصه بأفضل ما قرأنا من الرواية الغربية. كانت قصصه التي اختطّ فيها طريقاً خاصّاًـ تبدو تقديماً لأفراد غارقين في مسائل خاصة هي تورّط في العالم وإنسداد أفق وعبث مجاني وسخرية عابثة. نحن هنا أيضاً أمام تملكّ للفن وحرص على البناء والسرد وحرفة عالية، وهنا أيضا نحن أمام نصوص تحوي أفضل ما في الإرث القصصي المصري .مع ذلك لم يكن سرده وشخصياته بعيدة عن الجوّ المصري كنا نقرأ شخصيات عالميّة لاتزال مصريّتها حاضرة.

أظن أن القصاص البروتستانتي المصري المنتمي الى شيعة ضئيلة ربما حمل منها تربية ونبالة مضمرة. نشرت مقالة عنه في السفير المحتجبة وفي أوّل زيارة لي إلى مصر فوحئت به يزورني في الفندق بترانشكوته و جسمه النحيل ويدعوني إلى لغداء على ظهر مركب يطوف في النيل. كان مضيفي قليل الوطأة خفيف الظلّ مهّذباً عالي التهذيب لم يشك من شيء ولم يذمّ أحداً ولم يتبجّح ولم يتذمّر وأكثرمن ذلك لم يتحدّث عن نفسه.

فهمت أنّه غادر مصر زمناً طويلاً. لم يكن الوحيد الّذي غادر مصر من الأدباء، واستمرّت شهرتهم وهم في مهاجرهم،لا أعرف متى توقّف الشاروني عن كتابة القصّة. أعرف أنّه توّقف مبكّراًعن كتابة قصصه الفريدة واستبدلها بالنقد. لم يكن نقد الشاروني في مستوى قصصه. كان في نظري يتوسّل البقاء كاتباً وطال عليه الوقت في محاولته. تلك كانت في الأغلب من بين الأسباب التي عرّضته للنسيان وجعلت دوره الرياديّ في القصة مهملاً.

أمر آخر هو مشكلة القصّة القصيرة التي تتراجع وتغدو هي الأخرى منسية، رغم منح جائزة نوبل مؤ خّراً لقصّاصة قصّة قصيرة. تنسحب القصّة القصيرة من الساحة الأدبيّة ويوسف الشاروني الّذي منح جائزة نقد تكريماً لماضيه، لم يمنح جائزة الرواية لكونه ليس روائياً ولا جائزة للقصّة القصيرة، مسألة القصّة القصيرة تلك كان يمكن الإلتفاف عليها بدلاً من أن تتحوّل إلى عائق بيروقراطي.عدد من قصص الشاروني "القصيرة" هي في الحقيقة روايات قصيرة. قد يقال إن في هذا لعباً بالقواعد، لكنّ رائداً كيوسف الشاروني يستحقّ هذا التدبير.

لكن المسألة ليست في الجوائز فهذه قد تكون رمزيّة وقد لا تفعل كثيراً في الإضاءة على احتفاليتها. المسألة في حال الشاروني وفي حال آخرين سواه تكون في الغبن الذي يقع في النهاية على الجميع. النسيان وفقدان الذاكرة وبقاء الأدب والثقافة بلا تاريخ هي الأمور التي لا تنفّك تحيط بحياتنا وثقافتنا.