جرحى في إربيل بسبب مباراة كرم قدم. (أرشيف)
جرحى في إربيل بسبب مباراة كرم قدم. (أرشيف)
الإثنين 24 أبريل 2017 / 19:56

زمن الكلاسيكو

صغر كل شيء في حياتنا، وبعد أن كانت نظمنا السياسية منقسمة بين العلاقة مع الولايات المتحدة والصداقة مع الاتحاد السوفياتي، وكانت نخبنا منقسمة بين الاشتراكية ورأس المال و،...صرنا منقسمين بين فرق كرة القدم

للوهلة الأولى يظن الغريب أن العرب منقسمون سياسياً، لكن الاحتكاك بالشارع العربي يبدد هذا الظن الآثم، فلا أثر للاختلاف في الاجتهاد في تفسير ما يجري في سوريا أو العراق أو اليمن أو ليبيا، ناهيك عن فلسطين التي تغيب عن الفعل وعن العقل السياسي في ربيع العرب.

ليلة أمس، دفعني الضجر إلى المقهى، ولم أكن أعرف أنها ليلة الكلاسيكو، وأن عشرات من الشباب المتحمسين يتابعون الصراع الكروي بين فريقي برشلونة وريال مدريد على الشاشة الكبيرة التي نقلت وقائع "المواجهة المصيرية".. لم أكن أعرف أيضاً أن هؤلاء الشباب منقسمون في ولاءاتهم للفريقين، وأنهم مستعدون لخوض المعارك دفاعاً عن "حرية الرأي والمعتقد الكروي".

انتهت المباراة وانتهت سهرة المقهى بشجار عنيف سال فيه الدم بين مشجعي "الريال" و"البرشا"، وغادرت المقهى مصدوماً بما رأيت من تشنج وعصبية لدى الشباب المنفعلين، الذين كان واضحاً أنهم مستعدون للموت دفاعاً عن "قضيتهم".

لا أبالغ، وأصف ما جرى في أحد المقاهي في عاصمة يعاني شبابها، مثل معظم أقرانهم العرب، من البطالة والفوضى وضعف التعليم وارتفاع معدلات الفقر والاحباط واليأس وقلة الحيلة في مواجهة استحقاقات الحاضر واليأس من المستقبل. ولا أحب الذهاب إلى اتهام أطراف معروفة أو مجهولة بالمسؤولية عن هذا الواقع البائس، وأعترف بأنني، وقد تجاوزت الستين، فقدت حماسي للأشياء وتعلمت ضبط انفعالي، لكنني أذكر أنني مررت بالتجربة، وخضت مواجهات وشاركت في شجارات شبيهة في شبابي البعيد، حين كانت الجامعات وحتى المدارس الثانوية حواضن للصراع السياسي والعقائدي، وكانت المواجهة بين اليسار واليمين تنتقل من الحوار إلى الشجار في ساحات الجامعة وفي قاعات المحاضرات أيضاً.

صغر كل شيء في حياتنا، وبعد أن كانت نظمنا السياسية منقسمة بين العلاقة مع الولايات المتحدة والصداقة مع الاتحاد السوفياتي، وكانت نخبنا منقسمة بين الاشتراكية ورأس المال، وبين القومية والتديين، وبين التقدم والرجعية، صرنا منقسمين بين فرق كرة القدم، التي ننحاز إليها وكأنها أحزاب تجسد رؤانا وطموحنا، وتدفعنا للعمل والنضال لكي نكون جميعاً "على قدم لاعب واحد".

إنه زمن الكلاسيكو، وفيه نصير شعوباً وقبائل تتناحر أمام شاشات التلفزة في البيوت والمقاهي، لنصفق من بعيد لمتنافسين يخوضون صراعاتهم على أرضهم وبين جمهورهم. وعندما نحاول نسخ تجربة الصراع الكروي واستحداث "الكلاسيكوات" العربية لا نكتفي بالانقسام في الولاء للفرق المحلية ورموزها، بل نذهب إلى استبدال الكرات المنفوخة بالهواء بقنابل محشوة بالبارود نركلها بأقدام آثمة في الأحياء المكتظة بالضحايا.

وهو زمن الكلاسيكو العربي الذي نشهد بعض مبارياته في الصدام بين الميليشيات المتصارعة على أرضنا، وبين فرق المفاوضات التي تبدع في إطالة أمد الجمود، وبين الطوائف التي تحرق الأوطان.
وإذا كان كلاسيكو ريال مدريد وبرشلونه قد انتهي بجريحين في شجار في المقهى فإن كلاسيكو داعش والحشد الشيعي يتواصل ليحصد مئات الضحايا في الموصل، وكذلك يستمر كلاسيكو قمع النظام وإرهاب الظلام في سوريا ليحصد الآلاف من الضحايا للطرفين.

وإذا كنا نعرف اللاعبين الذين يركلون الكرات أو يقذفون القنابل، ونفخر بقدرتنا على كشف خطط اللعب في المستطيلات الخضراء أو العواصم المحروقة، فإننا نظل ناقصي المعرفة حين لا ننتبه إلى هوية من يدير المواجهة، ولا نكتشف أن من يحمل الصفارة في مبارياتنا الدموية هو في الغالب حكم إسرائيلي.