المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية إيمانويل ماكرون.(أرشيف)
المرشح للانتخابات الرئاسية الفرنسية إيمانويل ماكرون.(أرشيف)
الأربعاء 26 أبريل 2017 / 19:52

ما أنقذته فرنسا و...ما لا يزال مطلوباً إنقاذه

سقطت مناهضة أوروبا ممثّلةً بلوبان، لكنّها سقطت أيضاً ممثّلة بميلونشون الذي يعارض المشروع الاتّحاديّ بعدّة كلاميّة مختلفة إنّما بهدف واحد في النهاية

أنقذت فرنسا سمعتها وشرفها وتاريخها حين صوّت، يوم الأحد الماضي، نحو من أربعة أخماس مقترعيها لغير مارين لوبان، زعيمة "الجبهة الوطنيّة" العنصريّة. صحيح أنّ تصويت خُمس المصوّتين في أيّام عاديّة للوبان يُعدّ أزمة كبرى، لكنّ الأمر يختلف هذه الأيّام مع الصعود الشعبويّ الشامل.

لقد آثر بلد التنوير وثورة 1789 الكبرى وحقوق الإنسان ألاّ يرتكب مجدّداً ما سبق أن ارتكبه حين حضن ظاهرة حكومة فيشي المتعاونة في الحرب العالميّة الثانية، أو حين اختلق قبلها قضيّة دريفوس أواخر القرن التاسع عشر.

ففرنسا انشدّت، وسط مناخات الارتداد الشعبويّ والقوميّ العابرة للحدود، إلى القيم الديمقراطيّة والإنسانيّة التي بكّر الفرنسيّون في احتضانها والدفاع عنها. وفي الدورة الانتخابيّة الثانية التي ستُجرى في 7 أيّار (مايو) المقبل، يُقدّر ألاّ تنال لوبان أكثر من 35 بالمئة من الأصوات هم مؤيّدوها الأصليّون معطوفين على هامش ضيّق من المحافظين الريفيّين الذين أيّدوا فرانسوا فيّون، وعلى هامش ضيّق آخر من اليساريّين المتطرّفين الذين أيّدوا جان لوك ميلونشون(الذي – بالمناسبة – رفض المشاركة في إسقاط لوبان في الدورة الثانية!).

لكنّ فرنسا أنقذت أيضاً شيئاً آخر لا يقلّ أهميّة على المدى البعيد: إنّه أوروبا ومشروعها. حصل هذا بعدما كان التصويت البريطانيّ لصالح البركزيت قد أوحى أنّ المشروع الأوروبيّ بدأ يترنّح، وأنّ ألمانيا باتت كالقلعة المحاصرة في دفاعها عن ذاك المشروع وعن الديمقراطيّة الليبراليّة بقيمها وممارستها.

لقد سقطت مناهضة أوروبا ممثّلةً بلوبان، لكنّها سقطت أيضاً ممثّلة بميلونشون الذي يعارض المشروع الاتّحاديّ بعدّة كلاميّة مختلفة إنّما بهدف واحد في النهاية.

كذلك أنقذت فرنسا مبدأ الاستقرار الديمقراطيّ حول الوسط. صحيح أنّها استبعدت رمزي الحزبين التقليديّين، أي "الجمهوريّين" الديغوليّين ممثّلين بفيّون والاشتراكيّين ممثّلين ببِنوا آمون، وجعلت السؤال مشروعاً حول مستقبل هذين الحزبين، خصوصاً منهما الثاني، إلاّ أنّ فرنسا، مع ذلك، لم تعط قوى التطرّف يميناً (لوبان) أويساراً (ميلونشون) ما يزيد عن خُمسي مجموع المصوّتين. وبنتيجة هذا الخيار الداخليّ، استبعدت خيارات خارجيّة لا تتجانس مع الديمقراطيّة وقيمها، كالالتحاق بروسيا فلاديمير بوتين أو التواطؤ مع سوريّا بشّار الأسد، ممّا يدعو إليه ميلونشون ولوبان.

وأغلب الظنّ أنّ تطوّرين بارزين خدما كخلفيّة لما جرى في فرنسا: أوّلهما تخبّط المشروع الشعبويّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة حيث يتخبّط دونالد ترامب بمعظم سياساته المعلنة، والثاني هو تخبّط المشروع نفسه في أوروبا، وهو ما أظهرته نتائج الانتخابات الهولنديّة والأزمة التي تعيشها بريطانيا ما بعد البركزيت.

يبقى – وبحسب ما تُجمع التقديرات – أنّ إيمانويل ماكرون سيكون الفائز في الدورة الثانية، والرئيس المقبل لفرنسا بالتالي. وهذا معناه أنّ الفرنسيّين أعطوا فرصة أخرى لـ "النخبة" التي تواجه تمرّداً عليها في بلدان ديمقراطيّة كثيرة. لكنّ الخاصّ في فرنسا أنّ الاحتجاج على "النخبة"، والذي أطيح بموجبه فيّون وأمون، لم يستثمره أيّ مرشّح من الراديكاليّين والشعبويّين. لقد استثمره مرشّح أكثر نخبويّة، إلاّ أنّه لا ينتمي إلى النخبة القديمة للجمهوريّة الخامسة.

هذه المفارقة تضع ماكرون – بوصفه الرئيس الأشدّ احتمالاً – أمام تحدٍّ كبير هو التعاطي مع مسائل الاقتصاد والاجتماع الفرنسيّين. فإن نجح، في هذا المجال، في تبديد الاحتقانات التي يسبّبها خليط التأخّر التقنيّ والبطالة المرتفعة والعلاقات المأزومة بين الجماعات الإثنيّة والدينيّة، جاز القول إنّ الفرنسيّين أنقذوا أنفسهم حقّاً من خلال اختيارهم له. أمّا إذا استمرّت المراوحة في المكان نفسه الذي سيخلّفه وراءه الرئيس الحاليّ فرانسوا هولاند، فالمرجّح حينذاك أن تعود الشياطين عودة قويّة وظافرة بعد سنوات قليلة.