الروائيان اليابانيان يوكيو ميشيما وياسوناري كاواباتا. (أرشيف)
الروائيان اليابانيان يوكيو ميشيما وياسوناري كاواباتا. (أرشيف)
الأربعاء 26 أبريل 2017 / 19:54

مراسلات

أنشأ يوكيو ميشيما في سنواته الأخيرة، جماعة ساموراي، أشبه بالميليشيا، هدفها الدفاع عن روح اليابان المغدورة، مع أنه في السنوات اللاحقة للحرب العالمية الثانية، كان فاقداً للحس الوطني في مراسلاته مع كاواباتا

رسالة من يوكيو ميشيما، العنوان "أوياما 15، شيبويا، طوكيو"، إلى ياسوناري كاواباتا، العنوان "هاز 264، كاماكورا". هذه الرسالة فتحها جيش الاحتلال الأمريكي، وتحمل التنويه التالي: اطلعت عليها الرقابة. 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1948. قبل الرسالة بثلاث سنوات، ضربتْ الولايات المتحدة مدينتي هيروشيما وناغازاكي بقنبلتين نوويتين، القنبلة الأولى اسمها "الولد الصغير"، ورُميت على هيروشيما، وقتلت 140 ألف إنسان. والثانية اسمها "الرجل البدين"، ورُميت على ناغازاكي، وقتلت 800 ألف إنسان. الرسالة مهنية بحتة، ضمن رسائل عديدة بين الروائيين اليابانيين الشهيرين، تتحدث عن الأدب وحده، ولا يتطرق الروائيان إلى السياسة من قريب أو بعيد. ميشيما من مواليد 1925، أي أن عمره في زمن المراسلات كان 23 سنة، بينما كاواباتا من مواليد 1899، أي أن عمره في زمن المراسلات كان 48 سنة. ميشيما كاتب ناشئ، وكاواباتا معلم وأكثر شهرة، ولهذا يبدو ميشيما حريصاً على المراسلات أكثر من كاواباتا. يأسف ميشيما كثيراً في مراسلاته عن زياراته المُفاجئة لكاواباتا، يأسف لأنه لم يجد المعلم البارد في تلك الزيارات. يتجاهل كاواباتا أسف ميشيما في المراسلات، وكأنَّ كاواباتا كان مرةً أو مرتين، داخل منزله، ولم يستجب للزيارة المُقْتَحِمَة. ربما يعرف كاواباتا أن زيارة من هذا النوع المفاجئ، ستكون مُنفِّرة بسبب هوس ميشيما الذاتي الذي لا يكتفي بكتابة الرواية والقصة بل هو أيضاً كاتب مسرحي، ومخرج، وممثل سينمائي، وممارس للكاراتيه وكمال الأجسام.

لو جازتْ المُقارَنَة بين الفن الروائي عند يوكيو ميشيما، وعند ياسوناري كاواباتا، لكانت في صالح كاوباتا. ميشيما في أعمال مثل "الجياد الهاربة" أو "معبد الفجر" أو "اعترافات قناع"، يستعرض الطقوس والعادات اليابانية بطريقة فلكولورية، ويأتي هذا الاستعراض على حساب الدراما الروائية. طقوس الانتحار بطريقة الهاراكيري وطريقة السيبوكو عند الساموراي. وكأنَّ تلك الطقوس غاية في ذاتها، وكأنَّ سبب الانتحار عند محارب الساموراي، لم ينبع من تاريخ الحرب الأهلية. لم يخف كاواباتا تحفظاته المتعلقة بالانتحار، مهما كانت حالة الاغتراب التي يبلغها الإنسان، فإن الانتحار ليس شكلاً للتجلي، وحتى لو بدا المنتحر جديراً بالإعجاب، يظل بعيداً عن بلوغ نقطة ما. ومع هذا نعثر على شخصيات منتحرة في أعمال كاواباتا مثل "ضجيج الجبل" أو "سرب طيور بيضاء" إلا أنها انتحارات تستند بقوة إلى دراما الفن الروائي، وتنأى عن الطقس الاستعراضي. انتحارات هادئة، غامضة، تُجسد القسوة والرقة معاً. يقول ميشيما في مراسلاته الأخيرة لكاواباتا: أتفوه بالحماقات بصورة متزايدة، وهو ما يجعلك تبتسم، إلا أن ما أخشاه ليس الموت، وإنما ما قد يُصيب شرف عائلتي بعد موتي. إن أصابني مكروه في أي وقت، فإنني أظن أن الناس سيستغلون ذلك، ليكشروا عن أنيابهم، ويلاحقوا أوهى أخطائي، ويمزقوا سمعتي. سيان عندي أن يسخروا مني في حياتي، لكن ما يبدو لي غير محتمل، هو فكرة أنهم يسخرون من أطفالي بعد موتي. إنني واثق أنك أنت الوحيد الذي يمكنه أن يحميهم من ذلك، وأفوضك بهذا الأمر كلياً في المستقبل. قرأ كاواباتا المقطع السابق من المراسلات في جنازة ميشيما سنة 1970 تكريماً له، لكنه لم يذهب أبعد من ذلك، أي أنه لم يأخذ كلام ميشيما على محمل الجد.

أنشأ يوكيو ميشيما في سنواته الأخيرة، جماعة ساموراي، أشبه بالميليشيا، هدفها الدفاع عن روح اليابان المغدورة، مع أن ميشيما في السنوات اللاحقة للحرب العالمية الثانية، كان فاقداً للحس الوطني في مراسلاته مع كاواباتا. وكانت سفرياته إلى أمريكا سعيدة نوعاً ما. فجأة في أواخر الستينيات تذكَّر الدفاع عن روح اليابان. الحقيقة أن ميشيما كان يُهيئ مشروع انتحاره الاستعراضي. يُهيئ تاريخ مجده الشخصي كما يعتقد. فلماذا لا يأخذ تاريخ اليابان في طريقه، ولحسابه الشخصي. في 1970 هاجم ميشيما مع عناصر من ميليشياه مبنى القوات المسلحة، وخطف جنرالاً، واشتبك مع جنود حاولوا إنقاذه، ثم خرج إلى الشرفة ليُحرِّض على الانقلاب، والتمرد على الروح الأمريكية التي غزتْ الروح اليابانية. تقريباً كل مَنْ كان يسمعه أسفل الشرفة لم يكن يفكر إلا في إنقاذ حياة يوكيو ميشيما الذي ترك الشرفة، وغرز في بطنه سيفاً على طريقة السيبوكو. في 1972 أيضاً انتحر ياسوناري كاواباتا تحت وطأة المرض والسأم وربما نضوب قدرته على الكتابة، انتحاراً هادئاً، شبيهاً بشخصيات رواياته. استنشق الغاز حتى الموت، ولم يترك رسالة انتحار. أحب الغرب أسطورة أن الروائي الكبير انتحر تأثراً بتلميذه يوكيو ميشيما.