الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.(أرشيف)
الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر.(أرشيف)
الخميس 27 أبريل 2017 / 20:18

فى ذكرى مناورة الوحدة العربية الثلاثية

أصبح منتهى ما يحلم به الجيل، هو أن تعود «البصرة» إلى السيادة العراقية، وأن تعود «حلب» إلى السيادة السورية،

مرت الذكرى الثالثة والخمسين للوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق فى 17 إبريل (نيسان) الحالي، دون أن يتذكرها أو يحتفل بها أحد، ربما لأن حلم الوحدة العربية لم يعد يشغل الأجيال العربية الحالية، كما كان يعابث الأجيال الماضية، وربما لأن الأوضاع فى سوريا والعراق قد قلّصت هذا الحلم، بحيث أصبح منتهى ما يحلم به الجيل، هو أن تعود البصرة إلى السيادة العراقية، وأن تعود حلب إلى السيادة السورية، وربما لأن هذه الوحدة الثلاثية كانت آخر وأقصر الوحدات العربية المعاصرة عمراً، إذ لم تعش سوى أقل من مائة يوم، فصلت بين التوقيع على ميثاقها في 17 إبريل (نيسان) 1963، وبين إعلان الرئيس جمال عبد الناصر - فى 23 يوليو (تموز) من العام نفسه - انسحاب مصر منها.

ولم يكن قد مر على انقلاب الانفصال - الذي أدى إلى تفكيك الوحدة المصرية- السورية فى 28 سبتمبر 1961(أيلول) - سوى أقل من عام ونصف العام، حين قام الجيش العراقي فى 8 فبراير (شباط) 1963، بانقلاب أسقط حكم عبد الكريم قاسم، الذي رفض الانضمام إلى جمهورية الوحدة، ورفع شعار "جمهورية لا إقليم"، ولم يكتف قادة الثورة - فى بيانهم الأول - بالإعلان عن أنهم يسعون إلى تحقيق الوحدة العربية، بل وحرصوا على تأكيد ذلك فأسرعوا - بعد أسبوعين من قيامها - بإرسال وفد رفيع المقام، إلى القاهرة لكي يشارك في الاحتفال بعيد الوحدة فى 22 فبراير (شباط) 1963، وبعد أسبوعين آخرين - وفى 8 مارس (آذار) 1963 - فاجأت العناصر الوحدوية فى الجيش السورى الجميع، بالقيام بثورة أنهت حكم الانفصاليين الذين فككوا الوحدة المصرية - السورية، ليعلن "مجلس قيادة الثورة" - في أول بيان له - أنه يسعى لتحقيق الوحدة العربية، وتندفع الجماهير السورية إلى الشوارع فى تظاهرات عارمة، تطالب بإعادة الأوضاع في سوريا إلى ما كانت عليه قبل وقوع مؤامرة الانفصال، حين كانت الإقليم الشمالي للجمهورية العربية المتحدة، وتهتف "لا درس ولا تدريس إلا بعد عودة الرئيس".

وبعد أقل من أسبوع على قيام الثورة السورية - وفى 14 مارس (آذار) 1963 - وصل إلى القاهرة وفدان، أحدهما عراقي والآخر سوري، يرأس كل منهما نائب لرئيس الوزراء، ويضم عدداً من الوزراء ومن أعضاء مجلس قيادة الثورة، ليعقد مع وفد مصري برئاسة الرئيس عبد الناصر، ويضم نوابه وعدد من الوزراء، سلسلة من الاجتماعات المتلاحقة والمطولة، تدور حول كيفية تحقيق مطلب الجماهير العربية في البلدان الثلاثة بالإسراع فى إقامة الوحدة.. بينها استغرقت شهراً كاملاً، عقدت الوفود خلاله 19 اجتماعاً.

وفوجئ أعضاء الوفدين السورى والعراقي، في أول اجتماع بين الوفود الثلاثة، بأن الرئيس عبد الناصر ليس متعجلاً مثلهم لإنجاز المهمة، قائلاً إنها مهمة لا يمكن إنجازها دون إعادة تقييم تجربة الوحدة المصرية السورية التي لم تعش سوى 44 شهراً، حتى يتسنى للوفود استخلاص الدروس المستفادة من هذه التجربة، واكتشاف الأخطاء التي أسفرت عن هذه النتيجة، خاصة أن "حزب البعث العربي الاشتراكي"، الذي شارك بجهد أساسي فى إقامة تلك الوحدة، وفي الإدارة السياسية للدولة الموحدة، أيد الانفصال في بدايته، ولم يكف على امتداد الشهور التي عاشها، عن تعليق فأس المسؤولية عن فشل الوحدة في عنق الرئيس عبد الناصر، عبر نشراته الحزبية، التي وصفت الحكم في عهد الوحدة، بأنه كان تسلطاً مصرياً على سوريا، عزل السوريين عن المشاركة في الحكم، وأقصى القوى السياسية التي شاركت في إقامة الوحدة، لأنه كان يبحث عن أُجراء لا عن شركاء، ودعت إلى وحدة دون عبد الناصر.

ومع أن عبد الناصر قد اعترف بأنه أخطأ حين وافق على حل الأحزاب الوحدوية التي كانت قائمة فى سوريا قبل الوحدة، مما أدى إلى فراغ سياسي استغلته القوى المعادية للوحدة، وكان الأفضل أن تتشكل جبهة وطنية تضم هذه القوى، وأقر بأنه أخطأ حين تسرع بقبول استقالة وزراء حزب البعث من حكومة الوحدة، إلا أنه لخص موقفه بأنه على استعداد لأي شكل من أشكال التعاون مع الحكم الجديد في العراق، على الرغم من علمه بأن حزب البعث العراقي، هو الذي قام بالثورة، وهوالذى يتولى الحكم في بغداد إذ ليست بينه وبين البعث العراقي تجربة ولا يحمل له مشاعر سلبية، ولكنه لا يعرف من الذي يحكم سوريا، وإن كانت كل الشواهد تؤكد أن حزب البعث السوري هو الذي يحوز الأغلبية في مجلس قيادة الثورة، وهو - بصفته رئيساً لمصر - ليس على استعداد لكي يكرر تجربة أثبتت فشلها، فضلاً عن أن الوحدة الثلاثية سوف تتحول بهذا التركيب، إلى محاصرة مصر بين جناحين لحزب البعث، مما يقود إلى فشل جديد.

وانتهت المرحلة الأولى من الاجتماعات بالاتفاق على إجراء محادثات بين وفد من حزب البعث السوري، يضم أفراداً من قيادته، على رأسهم صلاح البيطار وميشيل عفلق، وبين الوفد المصري الذي اقتصر - في هذه المرحلة على عبد الناصر ونوابه ورئيس الوزراء - لترطيب الأجواء بين الطرفين، وعلى امتداد خمس جلسات نجح الاثنان في تصفية الخلافات المتراكمة بينهما، لتعود الوفود الثلاثة إلى استئناف المحادثات التي أسفرت عن توقيع ميثاق الوحدة الثلاثية.

ونظرة عابرة إلى بنود هذا الميثاق تكشف عن أن الأطراف الثلاثة، حاولت أن تستفيد من الأخطاء التي وقعت فيها الوحدة المصرية - السورية، ومن بينها تجاهل المشاكل النوعية، التي خلفتها ظروف التجزئة وعدم وضعها فى الاعتبار، بالتوصل إلى صيغة للوحدة، أقرب إلى الكونفدرالية منها إلى الوحدة الاندماجية، وإشراك الأحزاب الوحدوية، في تحالفات تضمها في كل من سوريا والعراق.

وتعالت الزغاريد فى معظم أنحاء الوطن العربي، تحتفل بإعلان الوحدة الجديدة، وتتوقع أن تكون البداية الحقيقية، لتوحيد الوطن العربي كله، من الخليج إلى المحيط.. وفجأة نشرت الصحف السورية مقالات تندد بالاتحاد الاشتراكي العربي في مصر، وتصفه بأنه مجرد لملمة عمال وفلاحين، وردت عليها صحف "القاهرة" بعنف أشد، وفي منتصف مايو 1963 بدأت "الأهرام" تنشر النص الكامل لمحاضر مباحثات الوحدة وما دار فيها.. لتحمله الإذاعات المصرية إلى كل أنحاء الوطن العربي، خاصة سوريا والعراق، فيما بدا محاولة لفضح حزب البعث، والإشارة إلى أنه يتوسل من أجل إتمام الوحدة، لتنتهي فى 21 يوليو (تموز) 1963 من نشرها، ويخطب "جمال عبد الناصر" في الاحتفال بعيد الثورة، فيستعرض الظروف التي تم فيها التوصل إلى ميثاق الوحدة الثلاثية، ويتهم "حزب البعث" بأنه لم يكن جاداً في السعى إليها، وأنه كان يعاني آنذاك ضغوط المظاهرات الشعبية التي كانت تطالب بالوحدة، في الوقت الذي لم يكن فيه قد أحكم قبضته بعد، على السلطة في سوريا والعراق، فقام بهذه المناورة الوحودية، حتى تستقيم الأمور في البلدين، ويطمئن إلى قدرته على السيطرة عليها.. وما كاد ذلك يتحقق حتى بدأ يهاجم الوحدة ويسعى لإفشالها، وهو ما دعا عبد الناصر لكي يختم خطابه معلناً انسحاب مصر من ميثاق الوحدة الثلاثية بعد أقل من مائة يوم على توقيعه، ليحدث ذلك الذي انتهى بالجيل العربي المعاصر، إلى تقليص حلمه الوحدوي ليصبح منتهى أمله، أن تظل "البصرة" تحت السيادة العراقية، وأن تظل "حلب" تحت السيادة السورية!