مظاهرة بجامعة القاهرة(أرشيف)
مظاهرة بجامعة القاهرة(أرشيف)
السبت 29 أبريل 2017 / 20:05

طرق تفكير تلائم واقعنا

يعتقد المتعجلون والمغرضون من علمائنا وباحثينا أن مناهج العلوم الإنسانية وأدواتها الإجرائية والتجريبية هي "إرث بشري مشترك" على الإطلاق، ولا ينبغي علينا إلا أن ننصاع لمقولاته، ونرضخ لأساليبه، ولا نضيع وقتا في تفنيده أو الجدل حوله، خاصة إن كنا عاجزين عن الإتيان بمثله أو غيره، وألا نقف عند استلهام حكمته، والاستفادة منه، بل نأخذه كله، ونطبقه في واقعنا بأي شكل وأي طريقة. ويتم هذا مع أن الغرب نفسه ينتظر منا أن نبدع طرقنا ومناهجنا لدراسة الظواهر التي تموج بها مجتمعاتنا حتى نعينه على فهمنا، بعد أن أخفق في تحقيق هذا بمناهجه وأدواته واقتراباته.

ولدى هؤلاء ولع شديد بكل الاقترابات والنماذج الإرشادية والطرق البحثية التي أبدعها الغرب في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأدب وعلم النفس والفلسفة... الخ. ولدى هؤلاء أيضا انصياع تام لفكرة "المركزية الأوروبية" وجراء هذا الولع وذلك الانصياع غصت جامعاتنا ومعاهدنا العلمية بكتابات منقولة حرفا، أو مستنسخة.

لكن هذا لا يمنع في بعض هذه المناهج تحمل مستوى من القوة والعمومية لا يمكن نكرانه، وبها قدر من الانضباط العلمي لا يكفر به إلا جاهل أو متنطع، وهي في خاتمة المطاف اجتهادات بشرية عميقة، لدراسة الظواهر الإنسانية، التي هي أكثر تعقيداً وأصعب مراساً من الظواهر الطبيعية. وقد استفاد منتجو الأفكار في بلادنا كثيراً من هذه المناهج والاقترابات والأدوات، وتخرجت على أياديهم جيوش من الباحثين والكتاب والمدرسين، ومديري الأجهزة البيروقراطية، وأصحاب الأعمال الحرة. وبعض هؤلاء استمر في استعمال هذه المناهج المألوفة بوعي كامل وقصد جلي، مثل الباحثين، وبعضهم تماهت هذه المناهج في عقله، شعوراً ولا شعوراً، لتساعده على التعامل مع قضايا الحياة، بشتى تفاصيلها، ومختلف جوانبها.

لكن هناك مشكلتين رئيسيتين في التعامل مع هذه المناهج إن استخدمناها لتساعدنا على فهم الظواهر التي يموج بها مجتمعنا العربي، الأولى تتمثل في اختلاف البيئة الاجتماعية لدينا عن نظيرتها في الغرب، والمشكلة الثانية تتمثل في عدم مواكبة الحركة البحثية والعلمية العربية للجديد الذي تجود به قرائح علماء الغرب نفسه.

وهذا البحث "الاستكشافي" يحاول أن يرسم المعالم الرئيسية لهذا التفكير، منطلقاً من نقد فكرة "مركزية" و"إطلاقية" أو عمومية مناهج البحث الغربية في العلوم الإنسانية، ليشدد على ضرورة إبداع اقترابات وأدوات علمية قادرة على دراسة الظواهر التي نعيشها. وينطلق البحث من عرض الانتقادات الغربية لمزاعم وحدة المنهج، حيث نجد أنه إلى جانب المتعصبين المؤمنين بالمركزية الأوروبية، هناك مقولات ناصعة في الغرب تؤكد قاعدة "الإرث البشري المشترك" في المعرفة، فها هو توماس جولدشتاين يتحدث في خاتمة كتابه الأثير "المقدمات التاريخية للعلم الحديث: من الإغريق القدماء إلى عصر النهضة" عما يسميها "شجرة المعرفة"، التي نحيا تحت ظلالها الوارفة في الوقت الراهن، بفضل إسهام مختلف الحضارات الإنسانية والعقول البشرية، ويؤكد أن هناك افتراضاً ضمنياً يبين أن العلم تطور بطريقة متسقة طوال التاريخ كله، لتبلغ مسيرته الصاعدة أعلى ذروة لها الآن، وليفتح المستقبل أفقاً جديداً لمزيد من القمم الشامخة.

ثم ينتقل البحث إلى مظاهر وجود حاجات واقعية إلى منهج ملائم لحياتنا وظروفنا، حتى لا يكون الحديث في هذا الاتجاه هو محض ادعاءات لا أساس لها، أو مجرد نوع من الترف الفكري الذي تمارسه بعض العقول لتزجية أوقات الفراغ، أو تجريد لا يقف على قدمين. وهنا ضرب الباحث أمثلة تبين ضرورة وجود نماذج إرشادية أو مناهج إنسانية وطرق تفكير نابعة من ظروف مجتمعنا. أولها أن مقاييس الذكاء صممت على أساس بيئة اجتماعية معينة تحيط بطفل ينطق بلغة من وضع المقياس، وليس غيرها، ويتعرض لنمط تربية بعينه، ولخبرات وممارسات في اللعب والجد متبعة بمجتمعه. وهذه الاختبارات، فضلاً عن تحيزها لمجتمع معين، فهي متحيزة للطبقة الوسطى ولأهل المدينة، ولنمط ثقافي يحدد سلفاً ما هي معايير التفوق والتقدم.

وثانيها أن مناهج واقترابات علم الاجتماع الغربي تبدو عاجزة عن تفسير ما يجري في بلد شرقي مثل مصر، فالنماذج العلمية الإرشادية تقول إن ظروف المصريين الحالية تقودهم إما إلى ضغط عارم على السلطة أو إلى ثورة ضدها أو إلى انهيار وتفسخ كاملين. لكن شيئاً من هذا لم يحدث ـ حتى الآن ـ رغم نضوج واكتمال العوامل المؤدية إليه. وحدا هذا بكثيرين إلى إزاحة السبب لـ "الثقافة السياسية" وهو سلوك معتاد من علماء السياسة والاجتماع حين يعجزون عن تفسير ظاهرة ما، لكنه سلوك هروبي وليس تفسيرا بديلا أو تجلية للغموض الذي يلف هذه الحال.

ولا تبدو التفسيرات المتكئة على مناهج الغرب مقنعة وهي تتصدى لمسألة استمرار الاستبداد في العالم العربي، رغم تداعيه في دول أقل مستوى في مجال التنمية مثل بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، وفي دول كانت أشد صرامة وتسلطاً مثل المنظومة الاشتراكية السابقة، التي انفرط عقدها بانهيار الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن المنصرم.

كما لا يمكن لطريقة "الاستبيان" و"الاستقصاء" كما تعلمناها من الغرب أن تأتي بنتائج دقيقة في مجتمع يعاني من الخوف والاستبداد والأمية، ولا يفرق بين "الباحث" و"المباحث"، ولذا يشكك بعض الباحثين في حصيلة هذه الأداة البحثية، ويتعامل معها آخرون من منطلق أنها مجرد "وسيلة ديمقراطية" في التعامل مع مجتمع البحث، أو العينة المبحوثة، لكنها غير كافية بمفردها، ولذا لا بد من أن تشفع بوسيلة أخرى.

وينتهي البحث بالاعتراف بأن الجهود التي نبذلها في إبداع مناهج تلائمنا لا تزال ناقصة، ويطلب النظر إلى السمات العامة التي تحكم عملية التفكير العلمي التي تهدف بالأساس إلى إيجاد حلول للمشكلات والمعضلات التي تواجهنا. وهي سمات تحتل من التفكير ما تحتله مواد البناء من البناية، فعليها تنتصب الأعمدة وتقوم الجدران والأسقف والأرضيات، لكننا نمتلك الحرية كاملة في الشكل الذي تتخذه البناية، من حيث المنظر الخارجي وعدد الطوابق، ومساحة الشقق السكنية، والهيئة الداخلية التي ستكون عليها، والتي يمكن أن تكون فاخرة لأصحاب الدخول المرتفعة، وبسيطة لأصحاب الدخول المنخفضة.

والمثل السابق يعني أننا نكون مخيرين بعد امتلاك مواد البناء بين طريقين، الأول هو أن نبدع الشكل المعماري الملائم لبيئتنا وظروفنا المادية والمعنوية، والثاني هو أن نقوم بإدخال تعديلات على رسوم هندسية معمارية متواجدة ومجربة في أماكن أخرى من العالم، حتى تتحقق هذه الملاءمة.

وبذلت جهود ملموسة من أجل تحقيق الخيار الثاني، إذ قام بعض علمائنا بإدخال تعديلات وإضافات إلى مناهج غربية لتلائم واقعنا، مثل ما قام به إسماعيل القباني من تعديل في مقياس الذكاء ( بالارد ) ليلائم البيئة المصرية، وما قام به الدكتور عبد الوهاب المسيري من حل مشكلتنا المعقدة مع العلمانية والدين مفرقاً بين "العلمانية الجزئية" التي تقوم على فصل الدين عن السلطة و"العلمانية الكلية" التي تقوم على فصل الدين عن الحياة، محبذاً الأولى، ورافضاً الثانية بشكل قاطع، وكذلك ما أبدعه المسيري بالتعاون مع فريق من الباحثين المتميزين في "إشكالية التحيز"، وما حاوله حسن حنفي في "علم الاستغراب" وأنور عبد الملك في "ريح الشرق"، وجمال البنا في حديثه عن "النقابية الإسلامية"، وما أبدعه المهندس حسن فتحي في "عمارة الفقراء" التي تعتمد إلى إمكانيات البيئة التي تحيط بنا ونعايش ملامحها وأشكالها وتفاصيلها.

لكن هذه الجهود لا تزال ضئيلة ومتفرقة، وتحتاج إلى تكثيف بالغ، وإصرار على الاستمرار والترقي في الفهم والبناء والتراكم، حتى يمكن أن نحصل على طرق للتفكير تلائم واقعنا، وتجلي عقولنا فترى ما يجري حولها في بلادنا بتبصر وإنصاف، وهي بداية لمعالجة مشكلاتنا الحياتية في ضوء مناهج العلم، وليس تحت وطأة الدجل والخرافات أو الاستلاب للغير.
ـ