الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.(أرشيف)
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.(أرشيف)
الأحد 30 أبريل 2017 / 20:25

ترامب وأيامه المائة الأولى

هل تبقى الترامبية، في الولايات المتحدة، بعد خروج ترامب من البيت الأبيض؟ الأرجح أنها ستبقى، والأرجح أنها ستترك آثاراً بعيدة المدى على بنية السياسة والمجتمع

 في معرض التعليق على المائة يوم الأولى، ذكر الرئيس الأميركي أن إدارته "أحدثت تغييراً عميقاً في واشنطن". وعلى أمر كهذا يتفق مؤيدوه ومعارضوه، ولكل أسبابه. فالكل، في أمريكا وخارجها، يُجمع على حقيقة أن في مجرّد صعود شخص كدونالد ترامب من خارج النخبة السياسية السائدة إلى سدة الحكم، وفي الذهن خصوصية سيرته، ومؤهلاته، وتحيّزاته السياسية والأيديولوجية، ما يعني أن تحوّلات عميقة، وبعيدة المدى، وقعت في واشنطن.

وفي هذا الصدد، فإن الأيام المائة الأولى تبدو وسيلة إيضاح يحتكم إليها المؤيدون للتدليل على عداء "المؤسسة" والنخبة السياسية السائدة للرجل القادم من خارجها، وعرقلة مشروعه. وفي الوقت نفسه يحتكم المعارضون إلى ما تجلى في الأيام المائة نفسها للتدليل على صدق مخاوفهم، وصحة توقعاتهم السوداوية.

وإذا كان من الصعب، في الوقت الحاضر، الكلام عن دلالات بعيدة المدى لما طرأ على بنية الحكم والسياسة في الولايات المتحدة من تحوّلات، فليس من السابق لأوانه القول إن التحليل بطريقة مُقارنة يُسهم في توسيع أفق النقاش بشأنها.

وبقدر ما أرى الأمر، فإن الولايات المتحدة بعد ترامب لن تبقى ما كانت عليه قبله، حتى وإن خرج من البيت الأبيض بعد انتهاء ولايته، أو أخرجته فضيحة من نوع ما لا يستطيع البيت الأبيض تحمّل تبعاتها القانونية والسياسية والأخلاقية، كما حدث مع الرئيسين نيكسون وكلينتون. فالأوّل استقال لتفادي إهانة الإقالة، بعد فضيحة ووترغيت، والثاني تفادى الإقالة بالاعتذار العلني للأمريكيين بعد فضيحة مونيكا لوينسكي.

لذا، ثمة ما يبرر التمييز بين ترامب كشخص، وبين الظاهرة الترامبية كتعبير عن تحوّلات عميقة تراكمت على مدار عقود، وغيّرت موقف الناخبين من النخبة السياسية التقليدية وممثليها الديمقراطيين والجمهوريين. وفي صلب التحوّلات المعنية أزمة المكان والمكانة التي عصفت بالإمبراطورية الأمريكية بعد نهاية الحرب الباردة، وأسفرت عن تورطها في سلسلة حروب مُكلفة، وما نجم عن العولمة من عالم متعدد الأقطاب، يملك فيه الأمريكيون الكثير من فائض القوّة العسكرية، ولكنها تبدو مقرونة بفشل واضح في بلورة عقد اجتماعي جديد في بلادهم، وفشل مضاعف في تحقيق السلام الأمريكي (Pax Americana) على طريقة الإمبراطوريات السابقة.
وإذا كان ثمة من نتيجة مباشرة لأزمة المكان والمكانة فإنها تتجلى بصورة صاخبة في صعود الشعبوية، والنزعات القوموية الانعزالية. وهذا لا يقتصر على الولايات المتحدة بل يتجلى في كل مكان آخر في الغرب، ويندرج في هذا المعنى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ونجاح ممثلة أقصى اليمين الفرنسي في الوصول إلى الجولة الثانية في انتخابات الرئاسة الفرنسية. والواقع أن اليمين يصعد في كل مكان آخر في أوروبا، مع اختلاف الحجم، ونسبة التمثيل، وممانعة المجتمعات والنخب السائدة، من بلد إلى آخر.

ومن أهم تجليات الأزمة أن الأحزاب التقليدية، التي تقاسمت الحكم في الديمقراطيات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، وبرهنت في الحرب الباردة على جدارتها، تعاني اليوم من أزمة فقدان قواعدها الانتخابية التقليدية، واضمحلال نفوذها السياسي والأيديولوجي، ويتجلى عجزها في ميل متزايد إلى المحافظة، في ظل صعود منافسين أقوياء نجحوا في الاستيلاء على نسبة يُعتد بها من جمهورها الانتخابي، وقواعدها الاجتماعية التقليدية.

ففي بريطانيا، مثلاً، نجح حزب "استقلال المملكة المتحدة" اليميني، في منافسة المحافظين والعماليين، وهم عماد النظام السياسي البريطاني، وفي كسب جزء من جمهورهم الانتخابي، وتعميم فكرة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وفي فرنسا أسفرت حملة الانتخابات الرئاسية عن انكماش القاعدة الانتخابية للجمهوريين والاشتراكيين، مع صعود واضح لممثلي أقصى اليمين واليسار.

ولا يبدو من السابق لأوانه القول إن الأحزاب التقليدية، التي هيمنت على المشهد السياسي في الديمقراطيات الغربية فقدت، أو أوشكت على فقدان، أجزاء واسعة من قواعدها الانتخابية التقليدية، وأن ظاهرة كهذه لا تبدو عابرة.

وإذا كان ثمة من ضرورة للمقارنة مع نموذج من خارج الديمقراطيات الغربية، فإن وصول ترامب إلى البيت الأبيض يشبه إلى حد ما وصول مناحيم بيغين إلى سدة الحكم في إسرائيل في العام 1977. لم يأت بيغين من خارج المؤسسة السياسية، ولكنه كان على هامشها بالمعنى السياسي والأيديولوجي، على مدار عقود. وبالنسبة للعماليين، الذين أنشأوا الدولة، ومؤسساتها، وتربعوا على سدة الحكم فيها، فقد فقدوا بعد خسارتهم في تلك الانتخابات مكان الأولوية بطريقة نهائية وحاسمة، بينما صعد اليمين بطريقة غير مسبوقة، ولم يكف عن الصعود بعد خروج بيغين من الحياة السياسية، وقد أعاد تشكيل الدولة ومؤسساتها على طريقته على مدار العقود الأربعة الماضية.

هل تبقى الترامبية، في الولايات المتحدة، بعد خروج ترامب من البيت الأبيض؟ الأرجح أنها ستبقى، والأرجح أنها ستترك آثاراً بعيدة المدى على بنية السياسة والمجتمع، ولكن أشياء كثيرة تعتمد على مدى نجاح أو فشل المجتمع الأميركي، ومؤسساته، ونخبه السائدة، في التأقلم مع، أو مكافحة الترامبية هناك. وهذا ما يصعب على كل قراءة مُقارنة التكهن به الآن.