رسم يصور ابن عربي.(أرشيف)
رسم يصور ابن عربي.(أرشيف)
الخميس 4 مايو 2017 / 23:16

الدّلالات الرّمزيّة في اختيار ابن عربي لمعرض الكتاب

لا بدّ من كبح جماح هذا الفكر، ومواجهة الفكر الظّلاميّ ومحاسبته، لتزييفه ثقافتنا التّراثية والفقهيّة، وتضليل الشّباب وحرمانهم من الاستفادة من ميراثهم المعرفيّ

أخذت الإمارات على عاتقها أدوارًا حضاريّةً ورياديّةً، فهي تجمع ما تفرّق في غيرها، وتتميّز بخصائص ومعطيات جديدة، قلبت كثيرًا من معارفنا السّابقة رأسًا على عقب؛ حيث قادت حركات الإصلاح الحقيقيّة في المجتمعات، وتعاظم تأثيرها في الأمّة العربيّة، وكان لها دورٌ مهمّ-بالضّرورة- في توعية الشّعوب العربيّة، بإظهار الصّورة الحضاريّة للدّين الإسلاميّ الحنيف وأثره في روْحنة الإنسانية والتقريب بين الأنا والآخر.

كان الجانب الرّوحيّ جاذبًا محوريًا للأنسانية بل أكثر ما يبهر الغرب والشّرق في الإسلام، لكنّ المجتمعات العربيّة المعاصرة أضحت تفتقر إلى الرّوحانيّة، وما يحدث من انتهاك لحقوق الإنسان داخل منظومة ديننا، شاهد على المأساة الحاصلة من العنف والقتل والدّمار، لأنّ ديننا المعاصر ابتعد عن قيم الحبّ والرّحمة والسّلام وقبول الآخر، والدّفع بالّتي هي أحسن، ونبذ الكراهية.

أصبح عالمنا المأزوم من الصّراعات، بحاجة إلى جرعات من الثّقافة الرّوحيّة العاجلة للتقريب بين الأنا والآخر، ثقافة الاختلاف من منظور عرفاني، وهي جرعات من السّكينة والأمان والسّلام ، فالرّوح وعاء الفطرة السّليمة، فيها كلّ مرادفات الخير والحقّ والجمال، وترنو بالنّفس إلى المعاني الإنسانيّة الخالدة، قال تعالى: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي).

هناك الكثير من الدّلالات الرّمزيّة في اختيار ابن عربي للاحتفاء بالجانب الآخر من الثّقافة العربيّة الرّوحيّة، ولتأسيس فلسفة الحب الكونية وترسيخها في رسوخ ذوق وسلوك لا رسُوخ فكر وحسب، ويلقى هَذَا التوجه حظوة وقبولاً من مختلف المشارب الّتي حاول أهل الغلو والتّزمّت تهميشها؛ بل إلغاءها، منها: أنّ الشّيخ محي الدّين ابن عربي من أولياء الله العارفين، ومن العلماء العاملين، وقد اتّفقوا على أنّه كان أعلم أهل زمانه؛ حيث إنّه كان عالمًا عاملاً في كلّ فنّ من فنون المعرفة، وأزهد أهل زمانه، وألزمهم للسّنّة، وأعظمهم مجاهدة في العبادات، انغمس في أنوار الكشف العرفانيّ والإلهام الرّوحانيّ، وكانت حياته مشوارًا طويلاً من أجل البحث المتواصل عما يحقّق الكمال لتلك الحاجات الفطريّة، وبقي عاكفًا حتّى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار الرّوحيّة.

وتعدّ كتبه- عمومًا- من النّصوص الموغلة في التّعمّق، ولغته رمزيّة فيها إشارات إلهيّة، كانت- في أغلبها- منزوعة عن سياقها، ونُقل عن ابن عربي أنّه قال: "أنّ من فسّر ألفاظه بالطّريقة الصّحيحة فهم ما يقصد من مؤلَّفاته"، وقد حذّر من تداول الكتب بين الجهلاء، ومن سلّم بظاهر تلك الألفاظ دون علم بمعانيها.
كان لا بد من إعادة بناء الأمة صفاء روحها، فالخطاب الإسلامي المتشدّد يتقاطع مع كلّ الاعتبارات الرّوحيّة والأخلاقيّة؛ فقد سلب العبادات أسراراها، وجعل الشّرائع والشّعائر أشبه بالحركات الخاوية، دون الالتفات إلى الحكمة من الجوهر الرّوحيّ، وتطبيق القيم والتّعاليم الإسلاميّة، والتزام المبادئ الأخلاقيّة، وسلّط الضّوء على ما هو حرام، فالتّشدّد- إذن- هو تلك الحالة الّتي تعتري الإنسان فتبعده عن الله سبحانه وتعالى، وتُوجِد بينه وبين الله حاجزًا يسلبه حلاوة الإيمان، ولذّة العبادة والمناجاة.

انحرافنا عن التسامح له أسبابه ومظاهره، استوعب ديننا- في الماضي- القوميّات والأعراق، دون أن يلغي فواصلها أو خصائصها وفضائلها؛ بل عززها واستفاد منها، فأصبحت الثّقافة العربيّة الإسلاميّة- عمومًا- مزيجًا متوازنًا من ثقافات الشّعوب الأخرى، وكان الإسلام الرّوحيّ في ماليزيا وإندونيسيا وسنغافورة- على سبيل المثال- أرضًا خصبة للمشروع الحضاريّ المدنيّ، فنمت داخل تلك الشّعوب ثقافة الإسلام الحضاريّ، وتمازجت فيه مفاهيم العدالة والحريّة والدّيمقراطيّة والتّنمية.

تكمن الخطورة الحقيقيّة في التّنظيمات الإيديولوجيّة المتشدِّدة، فتنظيم (داعش)- مثلّا- مازالت ثقافته فاعلة، وقدرته على جذب المؤيّدين مستمرّة، وتحريضه على العنف يلقى صدىً واسعًا، حتّى عند المسلمين في بعض الدّول المتحضّرة، وهذا ما يصعّب عمليّة الحرب على التّنظيم، فنهاية الخلافة لداعش، لا تعني- بالضّرورة- نهاية الحرب أو بداية السّلام، وإن لم نكافح هذه الثّقافة القمعية فإنّ مقاومة الإرهاب ستصبح ضربًا من ضروب المستحيل.

يجب قطع شريان الحياة عن الثّقافة التي تحتفي بالدّم وإهداره، فلا بدّ من كبح جماح هذا الفكر، ومواجهة الفكر الظّلاميّ ومحاسبته، لتزييفه ثقافتنا التّراثية والفقهيّة، وتضليل الشّباب وحرمانهم من الاستفادة من ميراثهم المعرفيّ الّذي صودر وهُمِّش واجتُزِئ، وتفعيل دور الثّقافة الرّوحيّة في مواجهة التّحديات الرّاهنة، وإبرازها للجميع، دون الخوف من عرضها على الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، لأنّها تحتلّ مكانة متميّزة- حقًّا- في التّراث الإسلاميّ، كما أنّها تُعنى بقضايا السّلوك وتربية النّفوس، وتُشكّل تيّارًا حاضرًا في العالم وفي التّاريخ الإسلاميّ.

والأهمّ من ذلك، خلق المثقّف الحقيقيّ الّذي يأخذ بيد البشريّة إلى المعاني الإنسانيّة الخالدة، وانتقاء الكتب الغنيّة بالمعرفة الرّوحيّة، وإبرازها للشّباب، إضافةً إلى التّوجيه السّديد والقيادة الواعية المستنيرة، ونطلعهم على مكنونات التّراث وقيمه العرفانيّة؛ فخطاب المحبة معين صافٍ من الثّقافة الإسلاميّة الرّفيعة.

نحن في مرحلة مخاض عسير، فقد سقطت أقنعة المتحايلين، وظهرت رغباتهم وتوجّهاتهم السّياسيّة، ونشر ثقافة الإنسانيّة وقيم المحبة والتّعايش والسّلام، لا يتأتّى إلا بإثراء المكتبات العربيّة بكلّ أطياف الفكر المتسامح، ذات الأبعاد العرفانيّة والرّوحانيّة، والاستفادة القصوى من الموروث المهمّش الّذي حاول السّلفيّون تكفيره وتزييفه، ونكران فضله، والحفاظ على الإسلام من أهل الأهواء والمصالح.