مكتبة.(أرشيف)
مكتبة.(أرشيف)
الجمعة 5 مايو 2017 / 20:08

رزق الهبل

لست أدعو أبداً إلى ترك الساحة لهم ليعيثوا فيها فساداً، أو أكمم أفواه المنتقدين، فقط أتمنى أن نؤمن مجدداً بأن الكون سيتدخّل بأحكامه وسننه، ورغماً عنا جميعاً

لم أكن شخصياً لأستغرب أن تزقزق قطتي وتغني لتعدد مواهبها، ولكن ما أن انتبهنا إلى وجود عصفورٍ جريحٍ بين أنيابها حتى نهضت أختي لافتكاكه قبل أن تقتله القطة الشبعة بهدف اللهو والتسلية. ولكن لم يكد المسكين يتنفس الصعداء، حتى انتزعته قريبتي وألقمته القطة –حرفياً- بدعوى أنه كان "رزقها من الله"، ولا يحق لمخلوقٍ أن يحول بينها وبينه.

كثيراً ما أسترجع تلك القصة بكوميديتها السوداء، فأغرق في نوبةٍ هستيريةٍ من الضحك. وشاءت الصدف أن تضحكني مجدداً مع حلول معرض أبوظبي للكتاب.

لقد قرأت وسمعت وانخرطت –مُكرهةً في الغالب- في انتقادات الرفاق والأصحاب لظاهرة "مؤلفي الغفلة"، أولئك الذين يلهون ويتسلون بوضع أي شيءٍ، وأي شيءٍ على الإطلاق، مما جادت به "فضاوتهم" على الرفوف. ليس لهم موهبة ليلبوا نداءها، ولا رسالةً تؤرقهم لنشرها، ولا فكر شهدت له أقوامهم، ولا حتى تجربة ثرية ليعلقوها على أستار دور النشر.

فكاتبٌ يجمع تغريداته في مُصنّفٍ، وآخرٌ ينشر مذكرات مبيته خارج المنزل حين أضاع المفتاح، وكاتبة ممن يجاهد الناس لفهم ردودها في مواقع التواصل الاجتماعي تنشر روايةً تطلبت منها "ويكند" من الكتابة عبر تطبيق الملاحظات في هاتفها الذكي.

بالطبع، أتعاطف مع المنتقدين والممتعضين، فأنا لا أرى فيهم سوى وثبة أختي حين يستبسلون لإنقاذ الكتاب من براثن العابثين الانتهازيين غير المكترثين، والذين شخّص الكاتب محمد المرزوقي علّتهم حين قال إن الكتاب أصبح وسيلةً لرفعتهم بعد أن كان وسيلةً لرفعة المجتمع.

ولكن في ذات الوقت، فإني لا أتوسم نتيجةً للاعتراض والاحتجاج. إن العالم يضج بأمثال قريبتي من منعدمي الشعور بالمسؤولية، أو هم طيبو القلب، أو هم الحمقى، ممن سيحررون الكتاب من الحفظ والصون، وسيعيدونه للعابثين. وسيؤدون مهمتهم النبيلة تلك شراءً ومدحاً وتأييداً وتبريكاً وريتويتاً واقتباساً وتصويراً وتوزيعاً.

ولن تختلف حجتهم عما قالته قريبتي "الجزّارة"، فهذا "رزقهم من الله"، وفرصتهم المواتية للشهرة والمجد، والسوق ترحّب بكل من يجيد النقر على لوحة المفاتيح. ثم من نكون نحن لنقف بينهم وبين التأليف، إذا كانت ذائقة القرّاء تنساق بنفسها خلف الأسماء بغض النظر عن المحتوى، ولا تمانع لكسلها أن تقتات على الغث والهزيل؟

لست أدعو أبداً إلى ترك الساحة لهم ليعيثوا فيها فساداً، أو أكمم أفواه المنتقدين، فقط أتمنى أن نؤمن مجدداً بأن الكون سيتدخّل بأحكامه وسننه، ورغماً عنا جميعاً.

فلقد "تلف" العصفور، فلا القطة استطاعت الاستفادة من لحمه الغض لعدم حاجتها إليه، ولجهلها به، ولا أختي كانت لتتمكن من منحه فرصةً ثانيةً في الحياة أصلاً.

ببساطةٍ، لقد سلكت الطبيعة مجراها المتوقع فيه، ولم يصمد كأداةٍ اتُخذت للهو والتسلية. ولكنه طمأنني بذلك إلى أن العابثين لن يهنؤوا مطولاً بعبثهم، فيوماً ما سيضجرون من كومة الكلمات والأسطر البالية التي خلّفوها، وسيبتعدون لاهثين خلف لعبةٍ جديدةٍ.