من التراث الإماراتي.(أرشيف)
من التراث الإماراتي.(أرشيف)
الجمعة 12 مايو 2017 / 20:08

الحكم المظلوم

حين تشكك في أي تغيّر، تحسّن، استنارة، وعي ونضج لرجال الدين، وحين تصنّف كل رأيٍ متسامحٍ لهم باعتباره ألعوبةً ومراوغةً ومساومةً وانتهازيةً... فأنت لا تكيل الاتهامات إليهم بقدر كيله إلى دينك

مضى الكلاسيكو الإماراتي السنوي بين من يحرّمون "حق الليلة" ومن يحللونها، وإن كنت سأطلب منكم إعفائي من إخطاركم بالنتيجة النهائية. وللأمانة، لا أعتقد أني أمانع هذه "المهاترة" الموسمية، فالاختلاف رحمةٌ، ورحمةٌ مثريةٌ للغاية.

ولكن هل يُعقل أن كل حكمٍ يفصل بين هذين الطرفين بفتاويه وآرائه ووجهات نظره، فيمتنع عن التبديع والتفسيق، ويعارض مطالب المتشددين بإنزال العقوبات بالخصم، لا يمكن إلا أن يكون انتهازياً، مداهناً، باحثاً عن الشعبية؟

سأعترف بأني كنت ذات يومٍ أرافق هذه الجماهير الغفيرة، وأوّجه نفس الاتهامات إلى الحكم متى ما وجدته متهاوناً متخاذلاً عن الحق، حتى وإن كان هذا "الحق" هو حُرمة توزيع "باونتي" عند انتصاف شعبان.

فقبل أكثر من عقدٍ من اليوم، كانت "الداعشية" الصغيرة في داخلي تبتهج بالأحاديث عن انحسار المسيحية في الغرب، وعن بيوت العناكب التي باتت تزيّن الكاتدرائيات، لأن هناك من أوهمني بأن في ذلك انتصار حتمي للإسلام.

وإزاء هذه "الهزيمة النكراء" التي يتعرض لها الصليب، كان لا بد وأن يتم إيهامي كما غيري بأن كل تغييرٍ تُجريه الكنيسة –بغض النظر عن مذهبها- هو كتغيير الحرباء للونها فقط لتفلت من المخالب الجارحة لمنتقديها.

فلم أستطع أن أحترم اعتراف الكنيسة بصحة نظريتي التطور والانفجار الكوني العظيم، ولم أستسغ تساهلها مع الزواج من غير المسيحيين، ولم أفهم رمزية أن يصرّح البابا بأن "الكفار" -بالنسبة له- قد يدخلون الجنة بعملهم الصالح. وحتى مع نسويتي المفرطة، لم أبتهج بسماح بعض الكنائس بترسيم النساء كقسيسات. "خداع، نصب، مسرحيات، مساومة". هذا ما دار في ذهني.

وفي ظل الضغوط التي عانتها المسيحية، وتراجع نفوذها وسطوتها، لم يكن من الصعب التصديق فعلاً بأن رجل الدين المسيحي لا يتطوّر ويتفتح كما نظن، بل يتنازل ويداهن ويتملق ويجامل فقط ليملأ المقاعد الخشبية الخاوية في قداس الأحد.

ولكني رفضت مواصلة الطعن في نواياهم، حين أدركت ما تعكسه هذه القناعة عن نظرتي للدين. أعني، ديني أنا.

حين تشكك في أي تغيّر، تحسّن، استنارة، وعي ونضج لرجال الدين، وحين تصنّف كل رأيٍ متسامحٍ لهم باعتباره ألعوبةً ومراوغةً ومساومةً وانتهازيةً تهدف لنيل الشعبية، واستعادة الضالين عن حظيرة الإيمان، فأنت لا تكيل الاتهامات إليهم بقدر كيله إلى دينك.

نعم، فأنت إنما تقول إن الدين ينقسم إلى غالبٍ ومغلوبٍ، ومُطاعٍ ومُطيع، وتتعدد الوسائل لكن الغاية واحدةٌ. أنت تؤكد أنه يستحيل أن يتراجع ويهتدي رجل الدين، أو يتعلّم من أخطاء من لوحوا لنا بالسياط، ولا يعقل أن يكون قد جددّ فهمه لدين الله كما قد يعيد المرء منا حساباته. بل هو الآن يضع لقمة الوسطية واليسر وتقبّل الاختلاف في راحة يده ليخادعنا بها كالبهائم!

بالله عليك، ألم تشفق على نفسك وأنت لا تتطلب استمالتك سوى بعض حلويات "حق الليلة"؟