إسرائيلي متدين يصرخ في وجه فلسطينية.(أرشيف)
إسرائيلي متدين يصرخ في وجه فلسطينية.(أرشيف)
الأحد 14 مايو 2017 / 20:02

قانون القومية: قلقٌ في الهوية وعليها..!

رغم أن إسرائيل دولة يهودية، بحكم ما لا يحصى من التشريعات، والثقافة، والأعياد الرسمية، وشعارات ورموز الدولة، إلا أن تعريف مَنْ وما هو اليهودي، ومَنْ وما هي الدولة اليهودية، لم يستقر على صيغة تحظى بالإجماع بعد

نشب، ليلة إعلان قيام الدولة الإسرائيلية، في مثل هذه الأيام، قبل تسعة وستين عاماً، خلاف بين عضوين في اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية، إذ ورد في مسوّدة أولى ذكر إله إسرائيل، فاعترض عضو من الجناح العمّالي، بينما أصر ممثل المتدينين على بقاء العبارة، واحتدم الخلاف إلى حد يُنذر بفشل المجتمعين في التوّصل إلى صيغة ترضي الجميع.

في ظل هذا الجو المشحون بانفعالات يصعب تحييدها، عثر بن غوريون على صيغة توافقية، فبدلاً من القول نضع ثقتنا في "إله إسرائيل"، اقترح وضع عبارة "صخرة إسرائيل" كبديل لعبارة "إله إسرائيل" التي يمكن للعلمانيين والمتدينين تفسيرها بطرق مختلفة. وهذا ما كان. وأصداء هذا السجال لا زالت تُسمع في إسرائيل حتى الآن.

عكس الخلاف الأيديولوجي، بين المؤسسين، صراعات عميقة الجذور في الفكر الصهيوني نفسه من ناحية، وحساسية خاصة، وثيقة الصلة، بصورة الدولة الجديدة في العالم، من ناحية ثانية. فالمضمون الديني لليهودية لم يحتل مكانة مركزية لدى التيار السائد في الصهيونية، كأيديولوجيا وحركة سياسية مُنظّمة، وحلّت محلّه تصوّرات قوموية، بل واتسم أحياناً بازدراء اليهودية كدين. وبهذا المعنى كان الخلاف على العبارة المذكورة، في الجوهر، خلافاً على معنى وهوية إسرائيل كدولة يهودية.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بصورة الدولة في العالم، استمد إعلان قيام الدولة شرعيته من وثيقتين مرجعيتين، بالمعنى القانوني، هما وعد بلفور، وقرار التقسيم، وفي كليهما ما ينص على حماية حقوق غير اليهود. وبالقدر نفسه، كان الرهان على الانتماء إلى "العالم الحر"، وتبني قيمه، من ضمانات البقاء في الأيام الأولى لنشوء الدولة.

وقد وجدت هذه الأشياء تعبيرها في الإعلان، الذي تعهّد صانعوه بتحقيق المساواة بين المواطنين، بصرف النظر عن العرق، أو الدين، أو الجنس، فنال ما تبقى من الفلسطينيين، ضمن حدود الدولة الإسرائيلية، المساواة على الورق، وعاشوا في الواقع سنوات طويلة في ظل الحكم العسكري، الذي يستدعي الحصول على تصريح للانتقال من قرية إلى أخرى. ناهيك عن حقيقة أن عمليات التطهير العرقي بحقهم كانت متواصلة في لحظة صياغة الإعلان نفسه.

ومع ذلك، وعلى الرغم من حساسية خاصة إزاء صورة الدولة في العالم، وتبنيها لقيم "العالم الحر"، والديمقراطيات الغربية، إلا أن الدولة الإسرائيلية لا زالت بلا دستور حتى الآن. وهذا ما يجد تفسيره في حقيقة أن الدستور يُعتبر مرجعية حاكمة لهوية الدولة، ويُعرّف علاقتها بمواطنيها، وهذا ما لم يجدوا صيغة توافقية بشأنه بعد. فالدستور يستدعي تحديد الإقليم السياسي للدولة، أي الحدود، وطبيعة كيانها السياسي، وهوية مواطنيها، أي القومية.

وهذا ما تعترضه موانع من نوع: وجود كيان سياسي في حدود لم تتضح معالمها النهائية بعد، وهذا الكيان، بنص القانون الأساسي، لا يُعتبر ملكاً للمقيمين على أرضه، بل ترجع ملكيته لكينونة فوق سياسية، وعابرة للحدود، تعيش في أماكن مختلفة من العالم، اسمها الشعب اليهودي.

وفي السياق نفسه، رغم أن إسرائيل دولة يهودية، بحكم ما لا يحصى من التشريعات، والثقافة، والأعياد الرسمية، وشعارات ورموز الدولة، إلا أن تعريف مَنْ وما هو اليهودي، ومَنْ وما هي الدولة اليهودية، لم يستقر على صيغة تحظى بالإجماع بعد، وبالتالي لا إمكانية لوجود الدستور.

لذا، وعلى الرغم من كل الضجيج، الذي يثيره اليمين الديني- القومي في إسرائيل، حول ضرورة اعتراف الفلسطينيين بيهودية إسرائيل، كشرط لمفاوضات قد تؤدي إلى تسوية، إلا أن مشكلة هؤلاء الحقيقية ليست مع الفلسطينيين بل مع يهود آخرين.

وهذا ما تجلى، قبل أيام، في اعتراض يهود متدينين على قانون القومية الجديد، بدعوى أنه "صهيوني قومي صرف"، يُعرّض تعريف اليهودي للتشويه، ويمثل محاولة "لاقتلاع الدين من أساسه"، كما جاء في صحيفة تنطق باسمهم.

وفي السياق نفسه، اعترض المعسكر الصهيوني (ما تبقى من نخبة العماليين التقليدية) على قانون القومية لتفادي خلافات يهودية ـ يهودية، والحيلولة دون احتكار اليمين الديني ـ القومي الجديد للحقلين السياسي والثقافي، بما يهدد مستقبل الدولة نفسها. وفي الأمرين ما يعيد التذكير بالصراع التقليدي على هوية الدولة، والحساسية التي أبداها المؤسسون إزاء صورتها في العالم.

بمعنى آخر، نسمع في السجال الدائر هذه الأيام بشأن قانون القومية الجديد، أصداء سجال أقدم رافق الدولة منذ لحظتها الأولى، وتجلى في صراع على الهوية لم يُحسم بعد، بل تم تفاديه بصياغات تلفيقية. الفرق بين سجال الأمس واليوم أن اليمين الديني ـ القومي، الذي كان عشيّة إعلان قيام الدولة قوة على الهامش أصبح في المتن الآن، وأن الإصرار على تشريع جديد كقانون القومية، بعد تسعة وستين عاماً، يدل على قلق في الهوية، وعليها.