الشاعر اللبناني محمد ناصرالدين.(أرشيف)
الشاعر اللبناني محمد ناصرالدين.(أرشيف)
الإثنين 29 مايو 2017 / 21:03

محمد ناصر الدين.. اختراع الوضوح

لا يشبه محمد ناصر الدين أيّاً من شعراء النثر الذين سبقوه من العرب. لا نجد فيه غنائيّة البعض، ولا التداعي اللغوي للبعض، ولا الفصاحة المعكوسة للبعض

 يبدي عدد وفير من النقّاد والقرّاء ضيقهم بما تكتبه الأجيال الجديدة شعراً ونثراً. إنّها في اعتبارهم أقلّ جديّة من أجيال المؤسسين، فضلا عن أنّها أقلّ عدّة وعتاداً، أقلّ جاهزيّة واستعداداً وامتلاكاً للفنّ. هذاالسلوك قد يكون من قبيل حرب الأجيال، لكنّ تهم الاستخفاف وقلّة العدّة تكاد تطبع جيلاً كاملاً. الأرجح أن ثأر النقّاد من مجايليهم وقع هذه المرّة على الجيل الأجدّ.

قد نجد بين الأجيال الجديدة من تصحّ فيهم التهمة التي تصحّ أيضاً وبالمقدار ذاته، وربّما أكبر، في أجيال المؤسسين. إن بقي من هذه الأجيال نفر قليل فإنّ من اختفى منهم وضاع اسمه عدد كبير. بل إنّ المرّشحين للبقاء، حتّى بين المعروفين، ليسوا كثراً. لعبة الشهرة قاسية ومتقلّبة. الأرجح أنّ الأحكام تملى من دون محاكمة طويلة، والأرجح أن تهمة الخفّة والطيش تكاد تكون أخلاقيّة أكثر منها ثقافيّة، ثمّ أن المعايير نفسها تتبدّل من دون انتباه والأذواق تتغيّرأيضاً بصمت وبدون دراية. هكذا لا يعم الحكم جيلاً، إذ لا يبقى من جيل كامل سوى أنفار قليلين وقد يمثلون أنفسهم أكثر مما يمثّلون جيلهم.

توفّر لي أن أقع على مجموعات شعرية لشعراء من الجيل الثاني والثالث، فوجدت نفسي أمام جديد لم يكن لولا أنّهم راكموا تجارب من سبقوهم وأضافوا إليها من ثقافة جديدة. كنت أمام نصّ مختلف مبتكر. نصّ مكتوب بدراية وحذق وامتلاك للأصول ومتانة واضحة. قرأت هؤلاء فلم أشعر أنني أمام تلامذة ولا أمام متدربين. كنت أمام موهبة أكيدة وتملّك واضح. هكذا قرأت "فصل خامس للرحيل" لمحمّد ناصر الدين.

لا يشبه محمد ناصر الدين أيّاً من شعراء النثر الذين سبقوه من العرب. لا نجد فيه غنائيّة البعض، ولا التداعي اللغوي للبعض، ولا الفصاحة المعكوسة للبعض، ولا المعاضلة اللغويّة للبعض، ولا الغرابة المتفاصحة المتذاكية للبعض، ولا التجريد الأصلع للبعض. لا نشعر بأن محمد ناصر الدين يدين لشاعر عربي، ولا هو في مجرى مألوف لنا. قد نشعر أنّ فيه، كما هو الحال في كل عمل جديد، شيئاً من اللغة الأجنبيّة كما يقول بروست عن كلّ كتابة جيّدة، شيئاً من التغرّب الحقيقي، الذي نشعر معه أنّ اللغة تكاد تنسلخ عن نفسها، وأنّها تخرج من حومة صراع داخليّ مع نفسها أوّلا ومع غيرها، غنّها حرب اللغة مع اللغة ومع مبدأ اللغة. إنّه الضيق بطبيعته الإشارية الرمزيّة الذي لا مخرج له إلاّ تركيب إشاريّة ورمزيّة أخرى عليها. ما يفعله ناصر الدين هو أنّه ينقل حربه إلى الشعر نفسه، والحداثة الشعريّة بوجه خاصّ، أي الإرث الحداثوي نفسه. مقابل الغرابة هناك الوضوح المموه. هناك الوضوح االذي في إيهامه يؤسس لغرابة مضمرة، حيث يترجرج الوضوح بالإيهام به. مقابل التداعي اللغوي هناك الإيجاز الذي يوهم باللا لغة التي تؤسس، في عريها ونصاعتها، للغة أخرى. مقابل الفصاحة المعكوسة هناك المبدأ البسيط للفصاحة، اللغة التي لا تتبرّج ولا تتظاهر والتي تنبني كما تبدأ اللغة بفطرتها ونضارتها. أي أنّ محمّد ناصرالدين يكتب كما لو كان الأوّل وكما لو كان مؤسساً وبادئاً وكما لو كان يخترع الشعر أو يبنيه على مبدأ ثان، وكما لو كان يكتبه بلغة أخرى.

الكلمات التي نستبعدها من القصائد
تلك الـ"قد" الصغيرة أو صفة "المضيئة " للشمس
تستحيل جيشاً من العسس
تشدّ أزر بعضها وتبرز أنيابها
كالمسامير الحاقدة التي تثقب الإطارات
تلك الكلمات حين نتخّذ القرار بقتلها إلى الأبد
كالأجنحة المهيضة
تبادلنا الرغبة ذاتها
وتجرح أيدينا بقسوة

ليس هنا أبعد من الوضوح سوى غرابته. بل هناك ثمّة ما يزيد في هذه الغرابة ويجعل منها أكثر بروزاً ونفوراً هو التمويه المنطقي الذي يضفي على القصيدة شكل المعادلة، شكل مسألة وهمية وسؤال مخترع يبحث عن حلّ أو يوهم بحلّ. أحيانا تبدو القصيدة لغزاً منصوباً أو رباعيّة منتظمة.

قاسية هذه الجبال بما يكفي
لتغفو تحتها المدن الجاهزة للمجازر
التاريخ رجال مستعجلون للركض في الجنازة