جريحة أصيبت في تفجير المنيا الذي استهدف باصاً للأقباط.(أرشيف)
جريحة أصيبت في تفجير المنيا الذي استهدف باصاً للأقباط.(أرشيف)
الثلاثاء 30 مايو 2017 / 20:04

حكاية من كتاب الأقباط: المعلم عاطف منير ذكي

هذا الرجل المقاول الطيب، المعلم "عاطف منير ذكي"، استشهد بالأمس مع شهداء مصر الأقباط في مذبحة المنيا الأخيرة الذين كانوا في طريقهم لزيارة دير "الأنبا صموئيل المعترف"

دعوني أحكي لكم اليوم حكايةً جديدة من حكايا أقباط مصر الشرفاء ليعرف، مَن لا يعرف، لماذا أحبّهم وأعتزُّ بهم، وأفخرُ بحبي لهم وأعلنه على الملأ تاجًا فوق هامتي، يزيدني جمالاً ويؤكد لي أنني إنسانٌ صالحٌ عاقلٌ يحمل روحًا طيبة، يُعمر الحبُّ قلبَه.

"أبو قرقاص"، إحدى المدن الجميلة في محافظة "المنيا". زاخرةٌ بالآثار الفرعونية الخالدة من عصر الدولة الوسطى، حول عام ٢٠٠٠ قبل الميلاد، حيث الأسرتان الحادية عشر والثانية عشر، وهو العصر الذهبي في مصر القديمة، الذي ازدهرت فيه الفنون والعمارة والآداب، وتميّز بالرخاء الاقتصادي والرغد؛ لأن ملوك تلك الحقبة المصريين عمدوا إلى إنهاض مصر اقتصاديًّا عن طريق الاستثمار في الموارد الطبيعية وإقامة مشاريع الري والزراعة والتجارة الخارجية. وفي تلك الحقبة نجح الملك "منتوحت الثاني" في توحيد بلادنا مصر وتخليصها من الاحتلال البدوي وإصلاح حال الفوضى التي حلّت بمصر بعد تمزيقها في العهد الانتقالي الأول. وفي تلك المدينة، مازالت شامخة قاهرة للزمن جدارياتٌ فرعونية فاتنة تصوّر السلف المصري القديم يمارس الفنون والرياضات البدنية المختلفة والألعاب الذهنية. وكذلك تتجلى عشرات المقابر غنية الأناقة من عهد "إخناتون" منحوتة في الصخر على جوانبها نقوشٌ مذهلة فنيًّا تسجّل حياة الجدّ المصري القديم في حياته اليومية وطقوسه خلال النهار والليل. ليس كل ما سبق هو سرّ عظمة تلك المدينة وحسب، ولا كذلك مناظرها الطبيعية الخلابة التي يشاهدها الواقف على صهوة منطقة الآثار حيث يرى سفح الجبل ينام على وسادته نهرُ النيل العظيم وهو يخترق جوف الصحراء، تترامى على ضفتيه الحقولُ والمزارع التي لا تغيب عن عين الرائي حتى تتقاطع مع خط الأفق مع نهاية البصر. ليس كل ما سبق وحسب، إنما هناك سرّ آخر من أسرار عظيمة تلك المدينة الخالدة.

أنجبت تلك المدينة الخالدة رجلاً نبيلاً اسمه "عاطف منير ذكي". مصريٌّ من أقباط مصر الشرفاء. يعمل هذا الرجل في المقاولات المعمارية، وذائع الصيت في براعته وأمانته وإتقانه عمله، شأنه شأن جميع أقباط مصر الذين يبرعون في أي عمل يُوكل إليهم فيؤدونه بكامل الأمانة والدقّة والحِرفية والإتقان. قرر القائمون على مسجد "التقوى" القابع في شارع "التقوى" بمدينة أبي قرقاص، أن يُرمّم المسجدُ وتُجرى له أعمال الصيانة الداخلية والخارجية. ووقع اختيارهم على هذا المقاول المسيحي. تم التعاقد معه على استلام الصيانة "من بابها". أي أن يقوم بتوريد المواد الخام وجلب العمال بأجرتهم اليومية وإطعامهم وكافة الأمور المتعلقة بإتمام صيانة المسجد. أنهى الرجلُ مهمته على خير وجه، وجاء وقت الحساب. هنا تنفتح صفحةٌ جديدة من صفحات الكتاب الثري المُسمّى "عظمة أقباط مصر". رفض المقاولُ المسيحي أن يتقاضى قرشًا واحدًا مقابل صيانة المسجد. دفع الفاتورة كاملة من جيبه الخاص من المواد الخام وأجرة العمال وإطعامهم وما غير ذلك. وقال: “كيف أتقاضى أجرًا في أعمار بيتٍ من بيوت الله؟!”

كل ما سبق جميلٌ وخالدٌ؛ سوف تدّونه مصرُ في كتاب تاريخها العريق. لكن مصر، للأسف سوف تُدّون مع ما سبق من أناقة خلقية، شيئًا مُرًّا موجعًا ليس جميلاً. هذا الرجل المقاول الطيب، المعلم "عاطف منير ذكي"، استشهد بالأمس مع شهداء مصر الأقباط في مذبحة المنيا الأخيرة الذين كانوا في طريقهم لزيارة دير "الأنبا صموئيل المعترف". مسلحون أجلاف عميان القلوب والأرواح، فتحوا النيران يوم الجمعة الماضية عشية الأول من رمضان على حافلاتٍ ثلاث كانت في طريقها للدير بمدينة "العدوة" بمحافظة المنيا، فأسقطت عشرات الشهداء معظمهم من الأطفال والأمهات، وعشرات من المصابين في حالات حرجة بالمستشفى يرقدون على فُرُش الألم والدهشة من تجبّر الإنسان على الإنسان. ولم ينس الأجلافُ السفاحون أن ينثروا فوق جثامين الشهداء أوراقًا مكتوبًا عليها: “صومًا مقبولاً وإفطارًا شهيًّا ورمضان كريم"!!!!!!!!

هذا شعبُنا القبطي الراقي المتحضّر، الذي أبدًا لم يلاقِ الإساءة بالإساءة، بل ظلَّ، ويظلُّ يُعلّمنا أن الإنسان الذي يحبُّ الله لا يقدر أن يبغض خلقَ الله. سامحَ اللهُ مَن لامني في حبّهم.