الفيلسوف الألماني جورج هيغل.(أرشيف)
الفيلسوف الألماني جورج هيغل.(أرشيف)
الأربعاء 31 مايو 2017 / 19:28

فلسفة الجريمة والعقاب

يُفضِّل هيغل مجتمعاً مليئاً بالجرائم تمت معاقبتها كلها أو معظمها، على مجتمع قليل الجرائم، تفلت كلها أو معظمها من العقاب

كان لهيغل نظر في المحاولات العديدة التي تتناول العقاب، ففي عرض أفلاطون لمحاورة "بروتاجوراس"، الناس يُعاقبون من وجهة نظر المستقبل، لا من وجهة نظر الماضي. وفي محاورة "الجمهورية" رأي سقراط، وهو أن عقاب المُخطئ لصالحه، لأنه يعمل على إصلاح نفسه. ومنذ كتابات هيغل المبكرة، حيرّته التبريرات الممكنة لهذا العقاب، ويشير إلى أن للعقاب سمات متنوعة، فهو قصاص عادل للرعية، وهو رادع، وكثيراً ما يعمل على إصلاح المجرم، وأن الإجراءات وحدها لا يمكن أن تعمل على اختيار سمة معينة من هذه السمات، بوصفها الغاية من العقاب أو الغرض منه. يشير هيغل أيضاً في كتابه "علم المنطق"، إلى أن العشوائية هي التي يتم بها اختيار إحدى السمات لظاهرة العقاب، بوصفها أساسية، فيما يُنظر إلى السمات الأخرى على أنها أعراض مصاحبة. لكنه يعود في كتاب "أصول فلسفة الحق"، إلى تبرير واحد للعقاب، وهو أن العقاب ليس ظاهرة تاريخية فقط، بل هو جزء من نظام الحق، ومكانه في هذا النظام، يُضفي عليه مغزى متميزاً.

تحت عنوان "الحق المجرد"، يدرس هيغل الملكية والعقد، ويؤدي ذلك إلى دراسة الخطأ. ويتخذ الخطأ ثلاثة أشكال. الأول هو الخطأ غير المتعمد، والمُخطئ هنا يحترم الحق أو القانون، لكنه يُخطئ في تطبيقه على حالة جزئية كما هي الحال في النزاع على الملكية، وهذا النوع من الخطأ، يؤدي إلى ظهور فعل مدني يعيد الوضع إلى حالته السابقة، لكنه لا يؤدي إلى ظهور العقاب. يفسر ميخائيل أنوود، أحد شُرَّاح هيغل، الخطأ الأول، بأن أحد المتنازعيْن على عقار مثلاً، وليكن جون، لا يُنكر الحق بصفة عامة، لكنه يُنكر حق خصمه فقط في هذا التنازع معه، أي أن جون، لن يُنكر حق الخصم في تنازع آخر، وعلى عقار آخر. الحكم الذي يصدر من جون، هو أن الخصم لا يملك هذا العقار، لكنه قد يملك عقارات أخرى. والمحاكم وحدها هي التي تختص بالفصل بين جون وخصمه. والخطأ الثاني هو النصب، فالمُخطئ هنا لا يحترم الحق، لكنه على الأقل يحترم ظاهر الحق، ويذهب هيغل إلى أن العقاب مُناسب للنصب، لأن الحق ظاهر وباطن، ومتى انْتُهك أحد جناحي الحق، فإن الحق يكون مُنتهكاً، لذلك وجب العقاب. والخطأ الثالث هو الإكراه والجريمة، وهنا لا نجد احتراماً للحق ولا لمظهره، ولهذا كان العقاب لازماً.

فالمجرم يريد تلك الملكية التي سرقها، لكنه يتوقع أن تُؤخذ منه، ومن هذه الزاوية، له الحق في أن يُعَاقَب، فمعاقبته تعني أننا نُعامله على أنه شخص عاقل حر. والعقاب يُلغي الجريمة صراحةً، العقاب قصاص يُشبه الانتقام، ولهذا ذهب هيغل في محاضرته عن "فلسفة الروح" 1805- 1806، إلى أن العقاب انتقام، لكنه انتقام عادل، إلا أن العقاب على خلاف الانتقام، هو رد مناسب على الإهانة المُعترف بها التي وُجِّهَت للحق. يشدد هيغل على أن سلطة مُحايدة مُعترف بها، لا الشخص المُضار ولا أقربائه، هي التي تنفذ العقاب، ذلك أن الانتقام على خلاف العقاب، يمكن أن يؤدي إلى سلسلة لا نهاية لها من الأخذ بالثأر. فالمطلب الذي يقضي بوجود سلطة مُحايدة، وبوجود إرادة ذاتية جزئية، هي إرادة القاضي، تريد تطبيق الكلي بما هو كذلك. لكن مطلب حل تناقض الإرادة الذاتية للقاضي، هو نفسه مطلب تحرير العدالة من المصلحة الذاتية، وهو ألا تكون العدالة انتقاماً بل عقاباً، وهنا تكون النجدة من الأخلاق، أي أن الإرادة الذاتية الجزئية للقاضي لا تحقق العدالة الكلية بوصفها عقاباً إلا إذا استعانتْ بالأخلاق، عناق الكُلي والخُلقي.

يُفضِّل هيغل مجتمعاً مليئاً بالجرائم تمت معاقبتها كلها أو معظمها، على مجتمع قليل الجرائم، تفلت كلها أو معظمها من العقاب، والتفضيل قائم على استحالة الحالة الثانية، لأن إفلات الجرائم على قلتها من العقاب، يتناقض مع وجود العقاب، أي كيف تكون الجرائم قليلة في مجتمع لا يُعاقب الخارجين على قانونه؟ قلة العقاب تؤدي إلى وفرة في الجرائم. إن المجرم يخترق القانون بإحساس أنه فوق الآخرين، ولذلك علينا ألا نخزله، ونعامله مُعاملة أدنى، والمُعاملة الأدنى، هي أنه غير مسؤول عن أفعاله، هي نفي لفعله الإجرامي، نُفي لفعله الوجودي. يؤكد هيغل أن ترك المجرم من غير عقاب، هو انتهاك صارخ لحقوقه.