شخص أصيب في الهجوم على جسر لندن. (رويترز)
شخص أصيب في الهجوم على جسر لندن. (رويترز)
الأحد 4 يونيو 2017 / 19:22

ثلاثة قتلة وفتاة عزلاء!

الظاهرة الداعشية غير مسبوقة، فهي بلا أهداف سياسية، إلا إذا اعتبرنا أن تكفير أنظمة الحكم، والمجتمعات، في مشارق الأرض ومغاربها، والإطاحة بها، والاستيلاء عليها، يُعتبر هدفاً سياسياً

جاء في شهادة ناج من هجمات لندن، نشرتها صحيفة الإندبندنت البريطانية فجر اليوم، الأحد: "رأيت شخصاً ملقى على الأرض يصرخ: "طُعنتُ، طُعنتُ"، ورأيت الدم ينزف منه، ثم رأيت ثلاثة مسلمين يحملون سكاكين، ركضوا وشرعوا في طعن الفتاة، ثلاثتهم طعنوها، وكنت عاجزاً عن فعل شيء، طعنوها، وطعنوا شخصاً آخر، إذا تذكرت جيداً، وعندها هربت صارخاً إرهابيون، إرهابيون، أُهربوا، أُهربوا، إنهم يطعنون الكل".

اللافت، في هذه الشهادة، أن أوّل ما تبادر إلى ذهن صاحبها أن يكون حاملو السكاكين مسلمين، وأنهم إرهابيون، بمعنى أن وقوع اضطراب في مكان عام، وسماع صراخ، ورؤية أشخاص يحملون أسلحة بيضاء أو غيرها، أو يقودون سيارات تدوس المارّة، يقترن بطريقة عفوية في أذهان الناس، في بلدان مختلفة، هذه الأيام، سواء كانوا في المكان، أو خارجه، بالمسلمين والإرهاب.

ومن المؤسف أن نتائج التحقيق في الأعمال الإرهابية تُبيّن أن حدس هؤلاء غالباً ما يكون صحيحاً. وهذا بعض الميراث الكارثي لصعود ظاهرة الإسلام السياسي، وأعلى مراحلها الوحش الداعشي، الذي يشن حرباً على البشرية في كل مكان من العالم، وإن كان أكثر ضحاياه حتى الآن من المسلمين أنفسهم.

ولن تتجلى الدلالة الحقيقية لحرب كهذه ما لم يستقر في الأذهان مدى ما يسمها من وحشية، وما يتجلى فيها من عبادة للموت، وتعطّش للدماء، كما في حادثة هجوم ثلاثة أشخاص بالسكاكين على فتاة عزلاء، مثلاً، وفي تجليات يصعب حصرها للعنف الداعشي في مشارق الأرض ومغاربها.

وإذا كان من الصعب حصر التداعيات السياسية والثقافية، بعيدة المدى، لصعود الوحش الداعشي، وتعميمه لنموذج العمليات الانتحارية، واستهداف المدنيين في أربعة أركان الأرض، فليس من السابق لأوانه القول إننا إزاء ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ العالم. فلم يسبق أن ظهر كل هذا القدر من العدمية، وهذا العدد من الانتحاريين، سواء في الحروب النظامية، أو حروب التحرر القومي في القرن العشرين.
ففي حرب الاستقلال، لم يستهدف المُقاومون الجزائريون، سواء في الجزائر، أو في فرنسا نفسها، المدنيين الفرنسيين بعمليات انتحارية، على الرغم مما لحق المدنيين الجزائريين من تنكيل على يد المُستعمر الفرنسي.

وفي حرب التحرير الفيتنامية، وعلى الرغم من عنف ودموية الأمريكيين، لم يحاول محاربو الفيت كونغ، الفيتناميون، الانتقام من المدنيين الأميركيين، والمتعاطفين معهم من الفيتناميين، سواء في فيتنام، أو في الولايات المتحدة، بهذا الأسلوب. وحتى في حرب العصابات التي شنها كاسترو للإطاحة بالنظام القائم في هافانا لم يستهدف ترويع المدنيين وقتلهم.

بمعنى آخر، كان هدف المحاربين، سواء في الجيوش النظامية، أو ميليشيات حركات التحرر القومي، كسب ود السكّان المدنيين، لذا كان تجنيبهم أكبر قدر ممكن من الأذى جزءاً من استراتيجية الفوز في الحرب، وكسب المعركة في الميدان.

وفوق هذا كله، كانت لدى الجيوش النظامية، كما لدى القوات غير النظامية، ومقاتلي حرب العصابات، أهداف سياسية تريد تحقيقها بالقوّة، وتحظى بالقبول والتفهّم من جانب قطاعات واسعة من الناس في بلادها وخارجها. ففي فرنسا، مثلاً، تعاطف فرنسيون، وبينهم أبرز المثقفين، مع المقاومين الجزائريين. وفي الولايات المتحدة نظم مواطنون أميركيون حملات متلاحقة وناجحة معادية للحرب في فيتنام. وفي كوبا تعاطف ما لا يحصى من الناس، في كوبا وخارجها، مع الحرب على نظام باتيستا الفاسد.

أما الظاهرة الداعشية فهي غير مسبوقة، فهي بلا أهداف سياسية، إلا إذا اعتبرنا أن تكفير أنظمة الحكم، والمجتمعات، في مشارق الأرض ومغاربها، والإطاحة بها، والاستيلاء عليها، يُعتبر هدفاً سياسياً يستحق حتى مجرّد التفكير، كما أن شطحات عدمية ودموية كهذه لا تحظى بالقبول، ولا التفهّم، من جانب الغالبية الساحقة من المسلمين، وكل سكّان المعمورة، بالتأكيد.

وأخيراً، باستثناء الحروب الدينية الأوروبية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لم يعرف العالم ظاهرة تتقنّع بالدين وتنطوي على هذا القدر من كراهية الآخر المختلف، وتمارس هذا القدر من العنف. ولم تظهر على مدار القرون الثلاثة الماضية ظاهرة معادية لكل منجزات البشرية في العلوم والفنون والآداب، كما يتجلى الآن في الظاهرة الداعشية، المعادية للبشر والمتاحف والآثار والجامعات والمكتبات.

لذا، ينهال ثلاثة قتلة طعناً بالسكاكين على فتاة عزلاء في مكان عام، وعلى الرغم من حقيقة أن المسلمين لا ينتمون إلى إثنية خاصة، ولا يُميّزهم لون بعينه، فبينهم الأبيض والأسود، والأوروبي، والأفريقي، والآسيوي، إلا أن الظاهرة الداعشية تخلق وتعمّم لهؤلاء صورة نمطية مؤذية. والمهم، أن نجاح العرب والمسلمين في تحرير أنفسهم من هذه الصورة النمطية، لن يكون مُقنعاً ما لم يكونوا في طليعة الحرب على الداعشية، على اختلاف راياتها وتسمياتها، لفضح داعميها، وتقويض منابرها، وتدمير تجلياتها التنظيمية، وخلاياها، وميليشياتها المُسلّحة على الأرض.