مقامات الخيبة لدارين حوماني.
مقامات الخيبة لدارين حوماني.
الإثنين 5 يونيو 2017 / 19:44

دارين حوماني ..الكلام شعراً

مثل هذا الشعر يلامسنا في قرارتنا وكأننا شركاء في قوله. إنّه يقولنا ويقول الشاعرة في الوقت نفسه

ليس لي فكرة إذا كنت سأتكلم عن أطفالي
ذات يوم
كما أتكلّم عن ذراعك

هذه ما أقتبسته عرضاً من مجموعة دارين حوماني الأخيرة "مقامات الخيبة" الصادرة عن دار النهضة. في وسعي أن أقتبس مثله الكثير فالمجموعة حافلة به بل هو خط سيرها إذا جاز الكلام عن خط سير لهذا اللون من الأدب. لا أجد أقرب من هذه العبارة فقارىْ "مقامات الخيبة" لا يخرج من وهلة العنوان غير الواعد إلى النصّ، إلاّ وهو يشعر بخفّة قلّما تتاح لقارىْ الشعر، فهو يقرأ هنا كما يتمشّى، ويعبر من سطر إلى سطر خفيفاً سلساً. لا يغادره شعور من يتنزّه أو من يتجوّل، ولا يصادف في طريقه إلاّ ما تألفه عيناه وما يشبهه أو هو على الأقلّ من دنياه. لا أعني بذلك تماماً أنّ الشعر واقعيّ، كما يقال أحياناً بصورة مغلوطة عن الشعر أوسواه، ولا أعني أنّه ماديّ أو ملموس، بصرف النظر عن ملاءمتهما، لكنّي أشعر أنّ هذا الشعر يولد على الطريق. لا يولد بل ينساب من الفم، على شكل حسرة أحياناً أو ملامة أو عتاب أو أنشودة قصيرة أو لهفة أو إخبار أو سرد. في كلّ ذلك ما يقال وما يسمع أو يلتقط بالسمع أو يهمس أو ينشد لهنيهة أو يحكى أو يسرد أو يباح به ويفلت من الأعصاب والمهجة.

أي أن قارئ دارين حوماني يرافقها في سيرها وكلامها، وقد يصحبها ويتكلّم معها ومثلها، فهذا الشعر ذو إلفة شديدة وقد كتب أو قيل ما بين إثنين، وحاجته واضحة إلى أن يسمع وأن يتبادل وأن يكون مجال أخذ وردّ وأن يتقاسم. لست أعني بهذا أنّ شعر دارين معنيّ بالقارىْ ويتقصّده، فليست هذه سمته. هو عكس ذلك تماماً إنّه السر، وقد غلى في القلب فانبثّ كسرّ وقيل في سرّيته وحميميته وغليانه وجوّانيته. إنّه الداخل وقد استولى على المشهد وعلى الكلام، ولكن الكلام وهو يشبه ما يفلت من الفم، ويشبه ما ينحكي وما يقال، الكلام على هذا الوجه يملك نفس المحكي لا صياغته. إنّه في استرسال المحكي لكنّه في الوقت ذاته تغريب المحكيّ وانسحاره، إذ لا يني يتغرّب بدون أن يتخلّى عن إسترساله.من داخل هذا النفس المحكي يتفتّق الكلام عن العجيب والسحري. من داخل المنطوق أو ما يشبه المنطوق تفلت شرارات عجائبيّة لاننتبه إليها كثيراً ولا نتفاجأ بها، بل نبقى في تردد نفسنا وفي انسيابه، وفي شعورنا بحميميته وقربنا منه.

سوف أودعك رأسي
لا تنس ان تضعه في مكان آمن
تحت ملاءة بيضاء
وغنّ له أغنية هادئة حين يفيض الليل
فكّ ضفائره المنعقدة
حزناً بعد حزن

مثل هذا الشعر يلامسنا في قرارتنا وكأننا شركاء في قوله. إنّه يقولنا ويقول الشاعرة في الوقت نفسه، بل نحن نشعر أنّه مبثوث من حياتنا ومن سيرتنا بقدر ما هو مبثوث من سيرة الشاعرة وحياتها، بل هو لون من الإعترافات ومن السيرة الداخليّة الحقيقيّة أو المتخيّلة للشاعرة. نقرأ القصائد وكأنّه فصول حياة أو كأنّها في دفئها وقربه ذكريات أو هي تمرّ كذكريات وترفّ كذكريات. الشاعرة هنا بجسدها وبحنينها وبلهفتها وبغضبها. إنّها العواطف الأولى، العواطف البدائيّة البريّة أحياناً بحيث نشعر بأنّها تقال كما هي، وتخرج بدون جهد وتنتظم بدون تقصّد أوتعب. نشعر بأنّ هذا الشعر يتكلّم بدون إفتعال. إنّ فيه ما نستطيع أن نسميّه براءة فحتىّ حقائقه الصافعة، وحتّى أكثر سطوره إنفعالاً، تقال بقدر من الهدوء واللاتعمّد، كأنّها تقال بلسان طفل أو بالغ يتذكّر طفولته. إنّ شيئاً من قصّة حياة، من إعتراف، من تسجيل للشكوك والإلتباسات والشبهات، من وثيقة شخصيّة، يخيّم على فضاء النصّ
كمسافر وحيد
أتلهّى بالتذكّر
الأشياء التي لم أستطع نسيانها
الأكثر سوءاً
وفي منتصف الطريق
أتذّكر أنّي نسيت أطفالي
كان هذا مؤلماً حقّاً
بل مرعباً