رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية.(أرشيف)
رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية.(أرشيف)
الخميس 8 يونيو 2017 / 20:17

تمويل الخراب

في فلسطين تتحول "السياسة القطرية" الى أسباب للمعاناة ونموذج يومي، يمكن تلمسه ومشاهدته واحصاء أضراره على المشروع الوطني، والاقتصاد، وحياة الناس

في "أزمة قطر" وتلاحق الأحداث في الخليج وتسونامي التحليلات الذي يعمي المنطقة، يمكن التوقف عند تفصيل صغير وترك هدير السيل وتقليب الحجارة وتقصف الأشجار، تصريح منسوب لوزير إماراتي كان يمر في الشريط الاخباري أسفل شاشة الفضائية.

بينما يحتدم كل شيء في الأعلى حيث يتدفق محللون وناشطون ومراسلون ووسطاء ومهللون، ويواصل متخصصون عرض الكوارث التي يقترحونها في سياق تحليلاتهم على شبكات التواصل الاجتماعي، كان الاقتباس الصغير من أقوال "الوزير"، الذي لم يظهر اسمه إلى جانب "التصريح"، يتكرر على شاشة الفضائية فيما يشبه محاولة توضيح أو مداخلة قصيرة بصوت منخفض:
"المقصود من الاجراءات هو تغيير سياسة قطر وليس تغيير نظامها"

تكاد تكون الكلمات العشر بين قوسين أعلاه نقلاً اميناً للاقتباس الذي ظهر على الشريط الاخباري.

هذا يبدو ملائماً وبسيطاً ومختصراً في مواجهة التحليلات والصور المتدفقة، صور الاستعراض العسكري في مطار الدوحة لعودة الجنود الألف من اليمن بعد انهاء دور قطر في "التحالف العربي"، أو صور المواطنين والأجانب في قطر وهم يتدفقون على مراكز التسوق لتخزين الأغذية والحاجيات المنزلية، أو طوابير المسافرين وعربات الأمتعة المتكدسة والشاشات المرتبكة في المطارات، أو الأحاديث عن "أسبوعين من القمح" وسنة (12 شهراً) من الغذاء... بحيث يبدو الأمر وكأن كارثة إنسانية على وشك الوصول واجتياح الجزيرة وسكانها، كارثة سيتراجع أمامها الحديث عن كارثة "الكوليرا" التي تعصف بعشرات آلاف اليمنيين منطلقة من "صنعاء" حيث يحكم الحوثيون وصالح، في طواف موت يحصد في طريقه أولاد وبنات اليمن شمالاً وجنوبا دون رأفة، وعلى مرأى من العالم الذي ما زال يناقش تحييد ميناء "الحديدة". ويكاد يتوقف الحديث عن حصار غزة الذي طوى السنة العاشرة ودخل عقده الثاني، غزة التي أنهكها تماماً حكم "الاخوان المسلمين" وسيطرة حماس وأجهزتها الأمنية تحت لافتة "المقاومة" التي يرعاها مندوب قطر السامي في القطاع.

ربما كانت جملة "تغيير السياسة"، لمن لا يعرف، حمالة أوجه أو عامة على نحو ما حين يطلقها مسؤول في تصريح إعلامي، ولكن الأمر يصبح أكثر وضوحاً ودقة هنا في فلسطين، لا أتحدث هنا عن جزيرة قطر في الخليج العربي بقدر ما أتحدث عن "سياسة قطر" في فلسطين، حيث تتحول، "السياسة القطرية" الى أسباب للمعاناة ونموذج يومي، يمكن تلمسه ومشاهدته واحصاء أضراره على المشروع الوطني، والاقتصاد، وحياة الناس، وأسباب معيشتهم وهموم الأفراد، ليس الأمر مجازاً سياسياً أو مبالغة "وطنية" كما يحلو للبعض وصفها، بقدر ما هي وصفة لتمويل الخراب.

تتبنى قطر، بشكل علني ومقصود، رؤية وسياسة وسلوك وأهداف "الإخوان المسلمين" في فلسطين، المتمثلة في تعزيز الانقسام، وتفكيك منظمة التحرير الفلسطينية، ومواصلة حكم غزة وتحويلها الى رأس جسر يمكن عبره تمرير أدوار إقليمية ومنح امتيازات نفوذ في القضية المركزية، الدور التركي والدور الايراني على سبيل المثال، تماماً كما يجري منح امتيازات التنقيب عن الغاز والنفط، غزة هي الاستثمار الأهم لجماعة "الإخوان المسلمين"، الفناء الخلفي لاندفاعهم في المنطقة وتجول فرقهم في المحيط العربي ومساوماتهم وتحالفاتهم الإقليمية.

في الشهور الأخيرة اكتسب هذا الاستثمار أهمية مضاعفة بالنسبة لمشروع "الجماعة"، أمام الانحسار الذي يتقدم من أكثر من جهة، من مصر وليبيا وسوريا واليمن ويدفعهم بعيداً عن المراكز، ويحول "غزة" نقطة انطلاقهم إلى ما يشبه "الجدار الأخير"، أو الملف الوحيد الذي يمكن أن يسمح لهم بالمرور الى جداول الترتيب القادمة، بينما تتفاقم الأوضاع في غزة ويتحول حكمهم هناك الى كابوس.

بعد تجربة عشر سنوات من الحكم يمكن إحصاء خسارات "حماس"، اثر انكشافها كنموذج بائس للسلطة، السلطة التي استنفذت شعارات "المقاومة" الذي تغذت عليها "حماس" طويلاً.

عشر سنوات من الانقلاب الذي مولته وغذته قطر، ومنحه "شرعيته" يوسف القرضاوي وتلامذته في القطاع، عبر فتاوى تحليل الدم، وقهر الناس وإفساد المشروع الوطني الفلسطيني، هي محصلة سياسة قطر في فلسطين.

هذا بالضبط ما ينبغي أن يتغير هنا، التوقف عن تمويل الخراب، وهو أمر سيكون في صالح الجميع، وسيدفع "حماس" نحو خيار العودة الى الصف الوطني، والعودة الى "الأجندة الوطنية" كبديل أساسي عن "أجندة الاخوان المسلمين"، والتوقف عن اعتبار "المصالحة الوطنية" واعادة رهينتها، غزة، الى إلشرعية الوطنية والاحتكام لصندوق الانتخابات، مؤامرة على "المقاومة"، مثلاً.