الجمعة 9 يونيو 2017 / 20:54

قطر على مفترق طرق

يُقال أن الامام أبوحامد الغزالي عندما خالط الفلاسفة وكتبهم بلعهم ولما أراد أن يتقيأهم لم يستطع، لعل هذه الحالة المجازية تمثل حال قطر مع جماعات الإسلام السياسي بمختلف أطيافها، فعندما حاول النظام السياسي ابتلاع هذه الجماعات من أجل استخدامها لصالح سياسته الخارجية، لم يلبث أن تم امتصاص هؤلاء في جسم قطر حتى صاروا جزءاً من نسيجها الذي يصعب التخلص منه، بل وقد صار التخلص منه يعني بتر أجزاء مهمة من الجسم الذي صرت لا تعرف داخله من دخيله، حاول النظام القطري أن يستخدم جماعات الإسلام السياسي من أجل دفع الدولة خارج نطاقها الجغرافي حتى صارت لها أصابع في الأزمات العربية التي شملت لبنان والصومال وسوريا والعراق ومصر وغيرها.

دعونا نستذكر هنا نموذج الخليفة العباسي المأمون حين اخترع فتنة خلق القرآن من أجل أن يضرب أهل الحديث الذين وقفوا بجانب أخيه الأمين ضده حين خرج عليه بعد وفاة أبيهم هارون الرشيد، فاستخدم المأمون التيار العقلاني في دولته -والذي كان يُمثله المعتزلة- من أجل توجيه ضربة انتقامية لأهل الحديث الذين كان على رأسهم أحمد بن حنبل، وتفاقمت الفتنة في كافة أنحاء الدولة العباسية الممتدة في نفس حدود العالم العربي اليوم، حتى صار الامام لا يخطب والمُحدث لا يحدث والأسير لا يُفك من يد العدو في بلاد الروم والفقير لا يُساعد والمسكين لا يُساند إلا بعد إجابته الصحيحة على سؤال: هل القرآن مخلوق؟

اليوم تغيرت صيغة السؤال إلى: هل أنت مؤيد لقضية خلق النفوذ؟ إذا قلت نعم فدونك الملايين اختر من أرقامها ما شئت، وإذا قلت لا فإنك ستتحمل نتيجة الفوضى التي سنخلقها في كل نسمة هواء تدور في وطنك عبر ماكينة إعلامية ممنهجة وموجهة من قبل أفراد يقبع هواهم خارج البيت الخليجي الذي يُصيبهم بالحكة والاضطراب حين يرونه يداً واحدة، حتى أن بعض هذه المنابر سرقت صوراً لإماراتيين أعرفهم شخصياً ووضعتها على صفحاتهم كمؤيدين مُزورين للسياسة القطرية، فهل يُرجى صدق من هذه البهرجة الاعلامية بعد ذلك؟

أتمنى من النظام السياسي في قطر أن يعود لتاريخه القريب، ففي القرن التاسع عشر كان سكان قطر رعايا عثمانيين تابعين للدولة العَلِيا في إستانبول، وكانت عندهم حامية عثمانية رسم خيوط إدارتها الوالي العثماني المعروف مدحت باشا، ماذا قدم الأتراك لقطر في تلك المرحلة؟ هل أدخلوا العلوم الحديثة؟ هل فتحوا المدارس؟ هل بنوا المستشفيات؟ هل بنوا فيها مساجد مثل مساجد الآستانة؟ كل ما فعلوه أنهم تأكدوا أن خطبة الجمعة تكون باسم خليفة استانبول اعترافاً بتبعيتهم وخضوعهم له، وأداء الضريبة للسلطان بالعملة العُصملية الذي كان لا يعرف من الجزيرة العربية إلا اسمها ومالها وخطبة يوم جمعتها.

اليوم يعمل النظام القطري على عودة الحامية العثمانية التي طردها أجدادهم، وها هم قد فرشوا لها السجادة الإعلامية الحمراء على مدى عقد من الزمن، والغريب أن منابر قطر الإعلامية شنت حملة شرسة على النظام الإيراني بسبب أيديه الملوثة بدم العرب في لبنان وسوريا والعراق والبحرين والسعودية، وها هي الآن تمد يدها إليه في صفقة مشبوهة تثير علامات الاستفهام حول رقعة الشطرنج التي كانوا يتناوبون في تحريك أحجارها بحسب مزاج الشعوب العربية التي تجره العواطف والنكبات والأحداث يميناً ويساراً.

لم استغرب أن دولة مثل الإمارات استطاعت استيعاب أكثر من 200 جنسية وعشرات الأديان والمذاهب في سياق حضاري يكفل التعايش الإيجابي بينها، لكن استغرب من دولة تريد استيعاب أكثر من 200 أيدولوجية في نظامها السياسي، فتجد المزاج الطالباني وتجد المزاج القاعدي وتجد المزاج الإخواني وتجد المزاج الشيعي المتطرف وتجد المزاج القومي وتجد المزاج الثوري وتجد المزاج القذافي وتجد المزاج الحوثي، وكلما ظهر مزاج يُظهر عداء لسياسة دولة منافسة لقطر، فإنه تلقائياً يجد عند النظام القطري ملاذاً وعوناً، لذلك يصبح التساؤل التالي سؤالاً مشروعاً للنظام السياسي في قطر، فإن كان النظام يُبشر الشعوب العربية برياح التغيير والحرية والديمقراطية، فلماذا لا يبدأ هذا المشروع في قطر ليكون نموذجاً يُحتذى به في العالم الحر؟ وإن كان النظام يُبشر بالخلافة التي يدعو لها دعاة الإسلام السياسي، فلماذا لا تُعلن الخلافة في الدوحة تبعاً لنظام الشورى والشروط العشرة للخليفة التي تتضمن قُرشية الامام؟

قطر هي جزء أصيل من دول مجلس التعاون الخليجي، وبيننا وبين الشعب القطري الشقيق دين ولغة ونسب وتاريخ ومصير مشترك، كنا نسمع هذه المصطلحات في دروس التربية الوطنية لكننا لم ندرك معانيها إلا لاحقاً، فكما أنه لا يُعقل أن تكون في مكانين في نفس الوقت، فإنه لا يمكن أن تكون عضواً في الخليج العربي والخليج الفارسي/التركي في نفس الوقت، أدركنا اليوم أن مصير الخليج العربي بشعوبه العربية لا يتفق مع من يريد جعله خليجاً فارسياً بشعوب ترتدي الثياب العربية وتحكمها الأيدولوجية الخمينية الصفوية.

مازال عند قطر فرصة لمراجعة حساباتها واختيار شركاء المستقبل والالتزام بما وقع عليه الأمير تميم في سنة 2014 للعودة إلى الحضن الخليجي المتشوق للم الشمل ورأب الصدع في أقرب فرصة قبل فوات الأوان، وإن كان هناك تشوق لنشر العدالة والأمن والرفاهية في المنطقة، فإن السعادة لا تأتيك من خارج الحدود، بل تنبع من داخلك، هذا الداخل الذي كلما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد كما ورد في الحديث النبوي، فلن يستنفر لك مثل يدك ولن يحك جلدك مثل ظفرك يا أيها الشقيقة قطر.