الجمعة 9 يونيو 2017 / 21:28

التحرر من تركة حمد بن جاسم

في حوار مشهور لحمد بن جاسم آل ثاني (معارفه في لندن يُسمّونه: HBJ) مع الفايننشال تايمز، نشر في 15 إبريل 2016، ذكرت له من حاورته أن أمير قطر السابق حمد بن خليفة قال ذات مرة: "أنا أدير قطر وحمد بن جاسم يملكها". فرد حمد بن جاسم بأن هذه ليست سوى مزحة من الأمير الذي يُحب إطلاق الطُرف عن ابن جاسم. أنا لا أعتقد أن تلك كانت مزحة، بل وأعتقد أن حمد بن جاسم كان يملك قطر ويُديرها في الوقت نفسه، وأنه لا زال يملكها ويديرها.

ابن جاسم الطموح كان رئيس الوزراء وكان يشغل منصب وزير خارجية قطر وشغل قبلها : منصب وزير الكهرباء بالإنابة لمدة عامين، ووزير الشؤون البلدية والزراعة، ورئيس مجلس إدارة شركة الكهرباء والماء القطرية، ورئيس المجلس البلدي المركزي، ورئيس إدارة مكتب المشاريع الأميرية الخاصة، وكان عضواً بمجلس إدارة قطر للبترول، وعضواً بالمجلس الأعلى للتخطيط، وعضواً في مجلس الدفاع الذي أنشئ في 1996، وعضواً في لجنة إعداد الدستور الدائم التي شكلت في 1999، وعضواً في مجلس العائلة الحاكمة الذي أنشئ في 2000، وعضواً في المجلس الأعلى لاستثمار احتياطي الدولة الذي أنشئ في 2000، وعضوا في هيئة التخطيط والتطوير العمراني، وعضواً في هيئة الأشغال العامة، وعضو اللجنة العليا للتنسيق والمتابعة، ورئيس مجلس إدارة شركة الديار القطرية للاستثمار العقاري.

وفوق كل هذا، كان رئيساً للاستخبارات في فترة من الفترات، كما ذكر عن نفسه. نحن أمام أخطبوط تغلغل في كل ركنٍ من أركان الدولة، وله رجاله الذين ينفذون تعليماته بحذافيرها، في كل مكان.

أضف إلى هذا شهادة كل من ذهبوا للاستثمار في قطر، فكلهم يقول إنه وجد ابن جاسم يُمسك بعصب الاقتصاد في كل قطر، وهو الشيخ العشائري ذو الباب المفتوح، يرتاد بيته الناس صباح مساء ويتناولون وجبات الطعام الثلاث فيه. ابن جاسم يملك مزيّة الانتباه لما يحتاجه الناس فيعرضه للبيع، ويملك القدرة على التظاهر بالتعاطف مع الناس، بينما هو لا يحمل ذرّة تعاطف، إلا مع جنون العظمة الذي يعيشه.

كل هذه الخطوط المتشابكة لن تجعلنا ننسى, أنه هو أيضاً، صاحب التسجيلات التي سرّبها القذافي، حيث سمعناه يتحدث عن رغبته في تقسيم السعودية وأنه بعد فصل المنطقة الشرقية والغربية عنا، لن نجد طعاماً نأكله. هل كان يعتقد أن هذا كان ممكناً؟ أم أنه كان يرغب منذ البداية، في تدمير قطر نفسها؟ ربما أنه لما رأى غزو العراق في 2003 تصور أن السعودية ستكون الضحية الثانية، خصوصاً وهو يعترف بنفسه أنه جلس مع رجال الاستخبارات من الأمريكيين والبريطانيين وطلبوا منه أن يعطي لهم تقريراً "رغاليّاً " وصفياً وتحليلياً عن السعودية. ما طبيعة هذه العلاقات السرية بين حمد بن جاسم والدوائر الاستخباراتية العالمية؟ هل هي كعلاقة أبي رغال بأبرهة؟ هل نحن أمام برنارد لويس العربي؟ هل هناك حاجة لأن نحاضر عن دوره في الفوضى العارمة غير الخلاقة التي دمرت بلاد العرب منذ 2011؟ هل يجب أن نتحدث عن تمويله لخالد شيخ محمد، الإرهابي الذي كان بمثابة العقل المدبر لجريمة 11 سبتمبر؟

ملفات ضخمة تحتاج إلى كتاب يُكتب بالأناة والحلم، لا إلى مقالة عابرة. هناك الكثير من الأسرار المخيفة تحتفظ بها ذاكرة (HBJ) والتركيز في تعابير وجهه عند أي حديث تلفزيوني له سيؤدي إلى الوشاية وفضح كثير من تلك الأسرار. أستطيع أن أقول أشياء كثيرة شخصية ظاهرة فيه، لكني لن أفعل، لكيلا أتهم بالشعوذة.

فلنترك الأشياء الشخصية، ولنهتم بالشأن العام، هذا الرجل هو صانع السياسة الخارجية القطرية الجديدة التي بدأت فعلياً، من إقناع حمد بن خليفة بالانقلاب على والده والاستيلاء على عرش قطر، كأبشع عقوق للوالد يمكن أن يكون، في 1995، ثم إنشاء قناة الجزيرة في 1996 وفتح النار منها على كل الدول العربية (باستثناء سوريا لفترة ليست بالقصيرة) وهو من قام بتقريب جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وإعطائهم حق اللجوء السياسي، وهو مهندس التقارب مع حزب الله وحماس، مع الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع إيران وإسرائيل، وهو من اتفق مع وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رمسفيلد على إنشاء أكبر قاعدة عسكرية أمريكية خارج الولايات المتحدة في العديد، تلك التي كانت تنطلق منها الطائرات الأمريكية لضرب بغداد، ثم يوحي ابن جاسم لأبواقه الذين كان يرشوهم بسخاء، أن يُشيعوا أن تلك الطائرات تنطلق من السعودية. (يتصور ابن جاسم أنه كسب هذا التواجد الأمريكي من السعودية والصحيح أن التواجد العسكري الأمريكي في السعودية كان لغرض استعادة الكويت من نظام صدام، وبعد استعادتها لم يبق هناك حاجة ولا رغبة في بقائها).

هذا كله تاريخ، والأهم منه، أن هناك علامات تدعونا للاعتقاد بأن حمد بن جاسم لا زال على رأس الهرم في السلطة، وإن كان غير ظاهرٍ في هذه الأيام. هذا لا يعني التقليل من أهمية ذكاء الآخرين, لكنه هو.. هو .. العقل المدبر الذي يرجع إليه الجميع ويثقون بذكائه. هذه ليست مبالغة، فنحن أمام داهية من دهاة العرب، داهية لا يقل ذكاء عن كل من اشتهروا بالذكاء عبر التاريخ. قد يُقال إن مدح الخصم لا يليق في الأزمات، لكن العقل يقول إنه لا بد أن نعرف من هو خصمنا أولاً، ثم لا بد أن نعرف قدراته وبواعثه، قبل أن نفعل أي شيء.

نحن أمام شخص فرح بزمن الثورات وشارك في صناعته، لأنه عاشق للثورات بطبعه، وثائر بلا قضية. عندما نتابع لقاءاته التلفزيونية نجد أننا أمام متحدث لبق، لكنه ساخر لاذع, يحاول أن يخفي نرجسيته الطاغية في دعوى الاهتمام بالإنسانية, رغم أنه يكاد يخلو من العاطفة، فهو عقل محض. تظهر في أحاديثه عصبية تدل على أنه صاخب، لكنه يحاول أن يغلف هذا بوشاح الدبلوماسية التي تخونه فيظهر كناقد غير لبق وقلق. نعم، نحن أمام رجل قلق، لا يُحب العيش في سلام، بل يعشق العيش على الصراعات والعداوات.

لقد ملأ ابن جاسم (HBJ) قلب حاكم قطر السابق بكراهية السعودية, وصوّر له السعودية على أنها الأخت الكبرى التي تريد إذلاله وسلب حريته وأنها تريد التحكم في خياراته السياسية، وها هو الإعلام الموجه الذي صنعه ابن جاسم من خلال قناة الجزيرة وبعض الصحف التابعة له، ينطلق في مظلومية كربلائية بائسة، تحاول أن تُصور لحكام قطر وللعالم كله أن حكام السعودية والإمارات والبحرين يريدون تجويع الشعب القطري، وكأننا أمام قضية غزة الثانية. والقطريون كلهم يعلمون أن السعودية والإمارات وقطر إخوة وسيعودون إخوة، لكن لا بد من التخلص من تركة حمد بن جاسم الثقيلة، أولاً عقلاء قطر يعرفون هذا جيداً. لقد وعد النظام القطري بوعود في 2014 ولم يفي منها بشيء، ولا بد من استعادة الثقة المتبادلة، والثقة لن تعود إلا بإزالة الأسباب التي أدت إلى غيابها. لا بد من التوقف عن مهزلة الاستعانة بالإيرانيين والأتراك، هذا سيرٌ في الاتجاه المعاكس لما ينبغي أن يُفعل، فكلاهما لا يريد الخير لقطر ولا للخليج، ولنتذكر أن أول حاكم لأمارة قطر، عميد ومؤسس حكم أسرة آل ثاني، محمد بن ثاني آل ثاني ذلك الرجل الذي اشتهر بلقب حاتم قطر لفرط كرمه، كان حليفاً للإمام فيصل بن تركي آل سعود، في زمانهما، وكانا عونا لبعضهما ضد القوى الخارجية الطامعة في بلاد العرب, ولنتذكر الشيخ قاسم الذي وصفه أمين الريحاني بالشجاعة والإقدام وقال عنه: "حارب ابن ثاني الاتراك فكسرهم في وقعات عديدة".

كل الأفكار التي بثها حمد بن جاسم ليست سوى أوهام لا حقيقة لها. السعودية والإمارات والبحرين دول شقيقة لقطر، ولا ترغب بتاتاً في إذلال قطر ولا للنيل من حريتها واستقلالها، ولا مطمع لهذه الدول في مقدرات قطر ولا رغبة لحكام هذه الدول في الهيمنة على حكام قطر، ولا لتركيعهم.
أين تكمن المشكلة إذاً؟ كل ما يريده الأشقاء من الشقيقة هو الخروج من إطار السياسة الخارجية التي مارستها خلال العشرين سنة الماضية، تلك السياسة الهدامة التي كان لها دور غير بريء في إزهاق أرواح الملايين وتشريد الملايين، من العرب والمسلمين، وتهديد أمن الدول الخليجية.
لقد هب الملك سلمان لاستعادة السلم الاجتماعي من جديد، ولإطفاء نار هذه الحروب المستعرة التي أكلت الأخضر واليابس، وقد قام معه إخوته حكام الدول الخليجية، ولن يتوقفوا حتى يعود السلام لكل البلاد العربية، ومن حقه ومن حقهم على قطر، حق الأخوة والجوار، أن تكون قطر مع هذا الخط لا ضده.

ليس من غرض هذا المقال الإساءة لحاكم قطر الشيخ تميم بن ثاني، وإنما لفت الانتباه إلى أن تركة حمد بن جاسم ثقيلة، وثقلها ليس عذراً، بل بإمكان الشيخ تميم بن حمد أن يكون هو "المخلص" الذي يُنقذ قطر مما أوقعها ابن جاسم فيه، وسيكون هذا أسهل بكثير عندما يضع يده صادقاً في أيدي قادة المملكة ودول الخليج الذين يمدون أيديهم إليه، صباح مساء. مصلحة دول الخليج وأمن الخليج يجب أن تُرفع فوق كل اعتبار عائلي، أو خسارة مال أنفقته قطر في السابق على مشاريع غير مجدية، كما أن الحديث في قضايا الخليج وأمن الخليج يجب أن يبقى محصوراً بين الخليجيين، مع كل التقدير لبقية العرب وغير العرب.