رسم تعبيري.(أرشيف)
رسم تعبيري.(أرشيف)
الثلاثاء 13 يونيو 2017 / 20:15

لأن الشمس غير عادلة والقمر كاذب!

مع سقوط السلطاتُ سقط البطلُ والفارس، فقد كان أحد أسباب دمار الكون، واحتلّ مكانه، ومكانته، المهمّشون والمنبوذون والمتروكون جانبًا والمقصيّون عن دائرة الضوء. أصبح "الظلُّ" و "الهامشُ" هو البطل

في صالوني الشهري الأخير، سألتني إحدى القراءات: “لما اختفت الرومانسيةُ من الحياة؟ حتى القصائد غابت عنها الرومانسية، لماذا يا أستاذة؟ هذا أمرٌ مخيف!" 

ولأن سؤالها جاءني بعد انتهاء الصالون وأنا في طريقي للمغادرة، ولأهمية السؤال، وعدتُها بأن أجيبها في مقال كامل. وها أنا أفي بوعدي.
واقع العالم اليوم صار أقرب لحاله وقت الحربين العالميتين اللتين انتهت آخرهما عام 1945. فإن كانت الحروب النظامية تشتعل بين أنظمة كبرى ودول وجيوش، فإن حروب اليوم الجارية في كل بقاع الأرض، صارت أسوأ وأقسى لأنها حروب غير نظامية بين أسوياء (الدول العاقلة والبشر الطبيعيين المسالمين)، وبين أشباح (الدول حاضنة للإرهاب وعصابات الإرهابيين المسلحين). والشاعر، منذ قديم الأزل، يحلم بأن يغيّر العالم، ويصنع يوتوبيا فوق الأرض. لهذا كان شعرُ الشعراء فيما مضى، كونيًّا شاملاً يحمل طاقات من الحب والجمال والرومانسية، وطاقات من الشجب للبغض وللقبح. لكن شاعر اليوم، فطن أخيرًا لضعفه أمام قوى الشر، وضآلة قلبه النابض بالحب، أمام هول قلب البغضاء الذي شمل العالم بأسره. فلم يملك الشاعرُ إلا أن يتواضع فيُلقي من بين أصابعه أطراف الكرة الأرضية، ويقبض على بقعة صغيرة من الأرض مساحتها متر في متر، هي التي يقف فوقها.

أصبح الشاعر الجديد أكثر إنصاتًا للحياة الراهنة بضجيجها وعبثها ووحشيتها وكوميدياها. لم يعد ممكناً الآن استلابُه بنَجم مراوغ يبرق في السماء، وقد غادر مكانه الظاهريّ منذ سنوات، ولم تعد تغريه شمسٌ غير عادلة تحرق أمكنةً باللهيب وتنسى أمكنةً أخرى فيسكنها الصقيع، ولا أصبح يفتنه قمرٌ مظلمٌ نعرف جميعنا أنه كاذبٌ يعكس ضوءًا ليس له.

الشاعر الجديد لم يعد يصدق إلا ما يراه ويلمسه ويسمعه من صليل سيوف وأزيز طائرات وقتل أطفال وسبي نساء وتسميم محاصيل بالإشعاع. آمن الشاعر أخيرًا أن قانون الأقوى يسود، لذلك عمد في قصيدته إلى تحطيم كل سلطة تغيبية. وهذه هي الحسنة، ربما الوحيدة، للخطاب ما بعد الحداثي الذي ابتكره الغرب في ستينات القرن الماضي بعدما تأمل الإنسانُ كيف خرّب البشرُ الكونَ في حربين مهولتين لا معنى لهما. ثم تساءل: "لصالح مَن هذا التشويه والدمار؟" لصالح الصناعة وبيع السلاح والاستحواذ والاستعمار. الشعراء الجدد انغمسوا في تفاصيل الحياة اليومية، وتركوا جانبًا القضايا الكبرى العالقة فوق مشجب التاريخ تنتظر حلاً عُلويًّا في يد زعماء وساسة لم يعد يعنيهم الإنسان كإنسان بقدر ما تعنيهم أمور، لا تعني الفقراء في شيء، مثل السيادة والنفوذ وامتلاك زر تدمير العالم في لحظة لو شاؤوا.

تخلى الشاعرُ الجديد عن مكانه فوق جبل الأوليمب المجيد لأنه أدرك أخيرًا أنه أضعفُ من أن يغيّر العالم. لم يعد يؤمن أنه نبيٌّ ولا فارسٌ ولا مُجيبٌ عن سؤال في عقل قارئ. بل أصبح كلُّ همِّه أن يصوغ "هو" سؤالا مناسبًا لكل ما يجري حوله، ولا إجابةَ ثمة. لأن طرح إجابةٍ ما، إن أمكن، ربما يعني كارثةً كبرى. فالإجابةُ تحتاج إلى تنفيذ، ومَن ينفّذ؟ أدرك الشاعرُ أن العالم جميلٌ هكذا بكل قبحه وفوضاه ووحشيته. ولا سبيل لإصلاح شأنه كما توهّم أفلاطون في جمهوريته، أو الفارابي في مدينته الفاضلة، أو توماس مور في مدينته الخيالية، أو كامبانيللا في مدينة الشمس. الشاعرُ التفت إلى "ذاته" النحيلة، لأنه ببساطة أدرك أن إصلاح تلك الذات وتعميره المتر المربع الواحد الذي يحيطه كاف جدًّا، طالما المرء لا يقبض على زمام أمره ومادامت أرواحُ البشرية في يد ثلة صغيرة تتحكم في مصائر الجنس البشري. لم تعد القضايا الكبرى تشغل بال الشاعر الجديد لكن ما يعنيه حقًّا، وهو الأهم برأيي، هو أثر تلك الأزمات الكبرى على الفقراء والعجائز والضعفاء والمنكسرين. فمع سقوط السلطاتُ سقط البطلُ والفارس، فقد كان أحد أسباب دمار الكون، واحتلّ مكانه، ومكانته، المهمّشون والمنبوذون والمتروكون جانبًا والمقصيّون عن دائرة الضوء. أصبح "الظلُّ" و "الهامشُ" هو البطل.

 فنجد القصيدة الجديدة حافلة بالحديث عن هؤلاء "الأبطال الجدد". الخادمة، والبوّاب، والإسكافي، والكوّاء، ومُحصّل الكهرباء، والنجّار، والكمساري، وعاملة النظافة في الفندق والعجوز الفقيرة، والعانس الوحيدة، والكهل المشلول، صاروا هم أبطال الحكايات. فإن لم يكن الشعرُ عن هؤلاء وحول هؤلاء ولصالح هؤلاء، فعمن يكون؟ إن لم ينتصر الشعرُ لمن هجرتهم الدنيا فلا شعر ولا شعراء! صحيحٌ أن الرواد من الشعراء لم يغفلوا تلك النماذج كليّةً كما وجدنا "المومس العمياء" عند السيّاب و"بائع الليمون" و"لاعب السيرك" عند أحمد عبد المعطي حجازي وغيرهما، لكن الفارق أن هؤلاء المأزومين غدوا "متنًا" كاملاً لبعض الشعراء الجدد وليس "هامشًا" على متن، يظهر في قصيدة أو اثنتين خلال تجربة عريضة مُقفلة القوس. هؤلاء المأزومون، هم من نلتقيهم "كل يوم" في حياتنا، ومن ثم توجّب أن يكون الحديثُ عنهم بلغة "كل يوم"، الخالية من الرومانسية. شاعرُ اليوم أدرك أن الشعر لم يعد يأتي من المجاز ومن اللغة بقدر ما هو مخبئ وكامن في الحياة. في حاراتها الخلفية المظلمة، في البيوت الصفيح والأحراش والعشش. وفي كل مكان تنأى عنه الشمسُ، الظالمة، غير العادلة أبدًا، والقمرُ الكذوب أبدًا.