رسم يمثل دول أوروبا الغربية الاعضاء في الاتحاد الاوروبي.(أرشيف)
رسم يمثل دول أوروبا الغربية الاعضاء في الاتحاد الاوروبي.(أرشيف)
الأربعاء 21 يونيو 2017 / 20:34

مفهوم أوروبا وصورتها

أيّ الطرق ستسلكها القارّة المصغّرة – التي ستكون بالضرورة أضعف ممّا هي اليوم – وسط المنافسات الدوليّة المحتدمة وفي ظلّ الصعود الجبّار للصين؟

ليس مفهوم أوروبا، شأنه شأن المفاهيم كلّها، جامداً أو نهائيّاً. إنّه، بطبيعة الحال، دائم التغيّر. في أيّامنا هذه قد نشهد نقلة أخرى في المفهوم. لكنْ لا بأس بشيء من العودة إلى الوراء. ففي موازاة بناء الاتّحاد الأوروبيّ وفي خضمّ سجالاته العديدة، ظهرت وجهتا نظر متناحرتان:

واحدة فرنسيّة ملوّنة بالمكوّنين السياسيّين الأبرز في التاريخ الفرنسيّ الحديث: الاشتراكيّ والديغوليّ. وجهة النظر هذه تركّز على الاتّحاد القارّيّ بوصفه مسرحاً للقيم التي تتصدّرها الديمقراطيّة البرلمانيّة وحقوق الإنسان، فضلاً عن كونه أداة تحكيم لامتصاص النزاعات.

وجهة النظر الأخرى بريطانيّة، أنغلو-ساكسونيّة، متأثّرة بالتفاعل العميق مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة وثقافتها، وملوّنة بلون "العمّال الجدد" البليريّين ممزوجاً باللون الثاتشريّ المحافظ. وجهة النظر هذه تركّز على الاتّحاد بوصفه سوقاً حرّة مفتوحة هي الأكبر في العالم.

السجال هذا ترتّب عليه تصوّران عمليّان: بحسب النظرة الفرنسيّة المتشدّدة في المواصفات المطلوبة للعضويّة، ينبغي أن يقتصر الاتّحاد على عدد من البلدان يقلّ عن عشرة. هذه البلدان الموزّعة بين غرب أوروبا وشمالها وجنوبها، يجمع بينها استقرارها الديمقراطيّ البرلمانيّ ومستوى من التقدّم الاقتصاديّ المتساوق.

أمّا النظرة البريطانيّة التي كُتب لها النصر في آخر المطاف، فقامت على فكرة الاتّحاد الموسّع المتمدّد نحو الشرق الذي أقبلت بلدانه على الديمقراطيّة والرأسماليّة بعد انهيار أنظمتها الشيوعيّة وسقوط الاتّحاد السوفييتيّ، مع وضع تركيّا، الجنوبيّة والمسلمة، على جدول أعمال الانضمام.

مؤخّراً صوّتت بريطانيا للخروج من الاتّحاد، وها هي اليوم تفاوض الأوروبيّين حول شروط ذاك الخروج. في المقابل، لا يبدو أنّ بلدان أوروبا الوسطى والشرقيّة (بولندا وتشيكيا وهنغاريا...) متحمّسة للبقاء في الاتّحاد. ذاك أنّ أحزابها القوميّة والشعبويّة القويّة لا تخفي مناهضتها للمشروع الأوروبيّ.

ما يعنيه هذا أنّ القارّة مرشّحة بقوّة لأن ترسو على صورتها الفرنسيّة المصغّرة بوصفها كياناً يدور من حول المحور المركزيّ الألمانيّ – الفرنسيّ. لكنّ أوروبا هذه لا يحول انسجامها الأكبر دون سؤال شديد الأهميّة: أيّ الطرق ستسلكها القارّة المصغّرة – التي ستكون بالضرورة أضعف ممّا هي اليوم – وسط المنافسات الدوليّة المحتدمة وفي ظلّ الصعود الجبّار للصين؟ والسؤال هذا يزيده إلحاحاً ذاك الواقع المثلّث الأضلاع الذي يحيط بالقارّة: من جهة، التهديد الروسيّ الذي يهبّ من الشرق في ظلّ فلاديمير بوتين والتعثّر الديمقراطيّ في موسكو، ومن جهة أخرى، توسّع الفجوة الأمريكيّة – الأوروبيّة وما يعنيه ذلك من تراجع في الالتزام الأمريكيّ بحماية القارّة، وأخيراً، المخاض الهائل الذي تعيشه شعوب المتوسّط في الجنوب من أوروبا، مع ما ينطوي عليه ذلك في ما خصّ مسألتي الهجرة والإرهاب.

في هذا الإطار ظهرت إلى الواجهة مؤخّراً مسألة نادراً ما اختفت من التداول: احتمال انبعاث التسلّح الألمانيّ الملجوم منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية. ولئن أكّد البعض على رفض الرأي العامّ الألمانيّ مثل هذا الانبعاث، متأثّراً بالتجربة النازيّة ومآسيها، مال آخرون إلى الربط بين احتمال كهذا وبين الكلام الأخير الذي صدر عن المستشارة أنغيلا ميركل حول الحاجة لأن تتولّى أوروبا مسؤوليّة نفسها، بدل الاعتماد على الولايات المتّحدة.

في مطلق الحالات، ستكون صورة أوروبا (الجديدة؟) موضوعاً مثيراً للمتابعة والتأمّل في السنوات، إن لم يكن الأشهر، القليلة المقبلة!