مائدة رمضانية منوعة.(أرشيف)
مائدة رمضانية منوعة.(أرشيف)
الأربعاء 21 يونيو 2017 / 20:36

ثقافة العين والبطن في تلفزيون رمضان

هنا يخسر الفن والفكر معركته أثناء الفرجة على حلقة واحدة في مسلسل يدوم ( في الأصل ) خمسين دقيقة، لأن الفقرات الإشهارية تقطع أوصال المسلسل وتجعل المادة التلفزيونية طاغية ومخصصة للبطن


1- حرب العين والبطن
يفضي رمضان شهر الصيام الى مائدة مزدحمة بشهوات الجائع الى الطعام الموعود به بعد غروب الشمس، ومن فرط زحام الطعام على مائدة الصيام تشبع العين لمجرد رؤية شعب من المصنفات الغذائية بين حلو وحار وحامض وبارد وساخن، ولذلك يقال: إن العين هي التي تأكل في رمضان.

وما أن تحين ساعة الافطار حتى تمتلئ العين بالرضا على المائدة، فتشبع بسرعة قبل أن تأتي على كل الطعام، وتضحك البطن لأنها خيبت آمال العين في الاستهلاك.

2- مطبخ العين والبطن
إن ما يحدث على مائدة الإفطار التي تنوء بحمل الأطعمة التي لا تؤكل كلها، هو ما يحدث في أذهان المسؤولين الإعلاميين في التلفزيون العربي ساعة يفكرون في البرمجة التلفزيونية في رمضان فهم ينشغلون مثل الاباء والأمهات في الأعداد، والاستعداد لشهر مزدحم بامتياز، فرمضان شهر المادة الاستعراضية التلفزيونية لكل الأطباق: يتقدم مصنفو الطعام وفيلسوفات الطبخ الذين يحولون بيوت الجميع دون تمييز بين الطبقات، الى أطباق طائرة بأطعمة قديمة وجديدة، شرقية وغربية، وبعضها غريب عن السمع والذوق، فيصبح التلفزيون في بيوت المحتاجين مطبخاً ليس فيه غير صورة تراها العين رؤية العين ولا تلمسها الا بشيء من الخيال، وما ترسله الأمعاء من ذبذبات البطن.

هكذا يملأ التلفزيونُ بيوت الفقراء ببخار متصاعد من مطابخ الاستوديوهات إلى ما يملأ العيون ويتسرب إلى الأنوف الحائرة وهي تتخيل أكلات مرهقة للجيوب ومستحيل أكلها بغير العين.

3- سجن العين والبطن
وفي رمضان لا بد من مسلسل ذي خصوصية، فهو ثلاثون حلقة، ولابد من أن يراعي أخلاق العائلة، وفي الوقت نفسه فيه مقاطع التشويق في كل حلقة حتى يسهل حشو الفواصل الإشهارية في الوقت الأمثل، لا بد من انتاج مسلسلات جديدة، حتى تكتب الصحافة أن هذه القناة التلفزيونية مميزة على غيرها بفضل ما تنتجه من أعمال درامية منافسة من أجل جلب الإعلانات الإشهارية، فالوجبة الدرامية تتفوق على الوجبة الإعلانية الإشهارية عادة لأطباق الطعام والمنتجات الغذائية.

هنا يخسر الفن والفكر معركته أثناء الفرجة على حلقة واحدة في مسلسل يدوم ( في الأصل ) خمسين دقيقة، لأن الفقرات الإشهارية تقطع أوصال المسلسل وتجعل المادة التلفزيونية طاغية ومخصصة للبطن، وأما العين فهي تخسر حربها مع البطن في المادة الدرامية.

3-دكتاتورية الكاميرا الفخّية:
بدأت الكاميرا الخفية في البلدان التي اخترعت التلفزيون، كمنوعة غايتها التسلية والترفيه بعد يوم من العمل والتعب والإرهاق، وقامت هذه الكاميرا على الإضحاك والادهاش من مواقف مستغربة ومقالب مستطرفة، ونادرة وخارجة عن المألوف، ونجحت هذه الكاميرا في أن تكون مادة للتسلية في الغرب فهي تثير الخيال، وتبهج نفوس الناظرين، وإن كانت تثير شيئاً من الرعب، فإنه رعب محسوب، ومدروس ولا يحدث كوارث كابوسية في نفس الواقع في فخ هذه الكاميرا وفي عيون المتفرجين بمختلف أجيالهم وطبقاتهم في الوعي والتلقي.

ولأنّ لكل شعب طريقته في الضحك، فإن العرب المعاصرين شاؤوا أن يصنعوا كاميرات خفية عربية خالصة، مثيرة ولا شك، ومنتجة للاستفزاز، بل إن بعض الكاميرات الخفية العربية ذهبت إلى جعل ادخال الرعب في نفوس الضيوف، هو بالضبط ما يدخل البهجة إلى نفس المتفرّج، وهو ما يدخل المال إلى القناة الفضايية من خلال الإشهارات.

ولأن الكاميرا الخفية العربية تشبه العرب المعاصرين في أسلوبهم في الظرف والتظارف، فقد صار من الممكن أن يصبح الإنسان، وهو يتمشى في الشارع، محتجزاً من قبل الإرهابي، وتصير عناصر من داعش في الشارع معنا، وليست في المخابئ، وصار الإرهابي نكتة وموضوعًا للتندّر . وهذا التصور والتنفيذ ورّط بعض الوجوه العادية والفنية في مواقف مضحكة بالنسبة للمتفرجين، ولكنها قاتلة ومشرفة في مناخاتها على حدود الرعب والهلاك .
وصارت الكاميرا الخفية وسيلة لاستخراج أسوأ ما في النفس من الشرور، تراه العين وتنهزم بمحتواه دون أن تدري أن سؤالاً يحيرني في بداية دراسة الفلسفة، وهو: هل يأكل الإنسان ليعيش أم يعيش ليأكل.

4-اعتقال العقل:
إن التلفزيون مصنوع من أجل العين، والعين مخلوقة للرؤية، وكما توجد معدة في البطون، فهناك معدة تجوع ومقرها العيون، والجوع يتهدد العيون. رغم أن التلفزيون العربي انتشر في كل مكان، بشكل غير متوقع أو منظور قبل عشرين سنة. 

وفي معركة العين ( الرؤية،الفكرة، الذهن)، تخوض نفوس المتفرجين امتحاناً لهضم هذه المادة الاعلامية، وكان التلفزيون يسعى في حرب الفرقعات الإعلامية الى انتصار البطن ( الغريزة - الاستهلاك، الإشباع) على الثقافة، ولقد استطاعت البطن ان تهزم العين في معارك التلفزيون العربي في رمضان وحدث اعتقال العقل، وصار جهاز التلفزيون منتصراً في شهر رمضان للبطن، وَ متفوقاً على العين العربية التي باتت تنتظر غروب الشمس .