الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.(أرشيف)
الأحد 25 يونيو 2017 / 19:00

قاعدةٌ وصفرٌ جديد في قائمة طويلة..!

ما الفائدة إذا ربحت تركيا الأردوغانية دولة بحجم قطر، وخسرت الدول الفاعلة في الإقليم والعالم؟ وما هي القيمة الاستراتيجية، عسكرياً وسياسياً، لقاعدة كهذه

يسمح الرئيس التركي أردوغان لنفسه، دائماً، بما يُنكره على الآخرين. فقد وصف الطلب بإغلاق قاعدته العسكرية في قطر ب"عدم الاحترام". وقبل السؤال والتساؤل عن معنى وجدوى القاعدة العسكرية هناك، ثمة ما يستدعي القول:

إذا كان لديه كل هذا القدر من الحساسية إزاء مسألة الاحترام في العلاقات الدولية، أليس في حساسية كهذه ما يوحي بأن العبارات المُهينة التي أطلقها، في مناسبات مختلفة، بحق مصر وحكّامها، بعد الإطاحة بنظام الإخوان، تنطوي على قدر فصيح وصريح من عدم الاحترام؟ أوليس في وصف حكومة السيدة ميركل، في ألمانيا، بالنازية ما يدل على انتهاك للحقيقة، وعدم الاحترام؟

لم تُعرف عن أردوغان، حتى الآن، قدرة خاصة على ضبط اللسان والأعصاب، والإفلات من غواية التصريحات الغاضبة، والعبارات الجارحة، في لحظات حاسمة. وإذا كان في دبلوماسية الغضب هذه ما يعزز سياسات الشعبوية في الداخل التركي، فإن فيها ما يُفسّر، أيضاً، إخفاقات وانقلابات وتقلبّات متلاحقة في سياستها الخارجية على مدار عقد من الزمن، لم ينج أحد فيه من لسان أردوغان، وغالباً ما انتهى الأمر بنزوله عن الشجرة العالية.

فهل نجم الأمر عن حقيقة أن السنوات الأخيرة شهدت تحوّلات غير مسبوقة، قوّضت النظام الإقليمي، في الشرق الأوسط؟ أم عن أوهام المشروع العثماني الجديد، الذي انخرطت فيه تركيا الأردوغانية بحماسة استثنائية في هذا الجزء من العالم؟

الأرجح أن تضافر وتكاتف الأمرين أسهما في نقل تركيا من شعار "صفر مشاكل"، الذي طرحته كقناع للمشروع في نقلاته الافتتاحية الأولى، إلى واقع "صفر علاقات مع العالم" الذي تتجلى ملامحه الآن في مشاكل وعلاقات مأزومة مع دول فاعلة في الإقليم والعالم.

وهذا كله نتيجة موضوعية لمشروع ملء فراغ القوّة بعد موجة "الربيع العربي" بالتحالف مع، والرهان على، جماعة الإخوان المسلمين، والإسلام السياسي عموماً، ليكون هؤلاء حصان طروادة، الذي يمكّن تركيا الأردوغانية من التسلل إلى العالم العربي، بوصفها القوّة الإقليمية الأهم. وقد سوّغ الوهم العثماني محاولات (لا نعرف إلا الظاهر منها، وما خفي كان أعظم) لإعادة هندسة وتشكيل النظام الإقليمي بالتدخل المباشر في شؤون دول عربية مختلفة.

وبقدر ما يتجلى من ملامح الواقع، في الوقت الحاضر، وصلت مغامرات ورهانات تركيا الأردوغانية إلى طريق مسدودة على جبهات مختلفة. فقد راهنت على الورقة الفلسطينية، ولعبت بها، بطريقة أسهمت في تدهور علاقتها التقليدية بإسرائيل، ولكنها اضطرت للنزول عن الشجرة في محاولة لترميم العلاقة.

وفي السياق نفسه أدركت أعداد متزايدة من الفلسطينيين والعرب، أن اللعب بورقة كهذه، وبما لها من مكانة رمزية عالية، كان مجرّد تمثيلية وانتهازية سياسية، أسهمت في تعميق الشرخ الداخلي الفلسطيني، وفي ازدياد معاناة قرابة مليونين من البشر في قطاع غزة، الذي أصبح ورقة للمساومة، وأراد له التحالف الإخواني ـ الأردوغاني ـ القطري أن يكون شوكة في خاصرة مصر، بعد سقوط حكم الإخوان في القاهرة.

لا يتسع المجال، هنا، للاستطراد في الكلام عن إخفاق المغامرة الأردوغانية وتداعياتها الكارثية في سورية على نحو خاص. وكذلك ما طرأ من انقلابات مفاجئة على العلاقة مع دول الاتحاد الأوروبي، وروسيا، والولايات المتحدة. وإذا كانت العلاقة مع الروس قد تحسّنت بعد أزمة كادت تصل حد المجابهة العسكرية، فلا ينبغي إسقاط تدهورها مرّة أخرى من الحسبان.

فالخلاصة أن حصاد المغامرة الأردوغانية مُرٌ على مختلف جبهات السياسة الخارجية، وتزيد من مرارته حقيقة أن الإرهاب الذي بدا في وقت ما وكأنه الوصفة السحرية في مشروع التوّسع الإقليمي، يضرب، الآن، في العمق التركي نفسه.

وفي سياق متصل: القاعدة العسكرية التركية (خمسمائة جندي في أفضل الأحوال) في قطر جزء من مشروع ملء الفراغ، والسباق على مكان ومكانة القوّة الإقليمية، وترجمة مباشرة لوهم المشروع العثماني الجديد.

هذا كله صحيح. ولكن ما الفائدة إذا ربحت تركيا الأردوغانية دولة بحجم قطر، وخسرت الدول الفاعلة في الإقليم والعالم؟ وما هي القيمة الاستراتيجية، عسكرياً وسياسياً، لقاعدة كهذه، باستثناء مكانتها الرمزية في وهم المشروع العثماني الجديد؟ وما علاقة الاحترام أو عدمه بالموقف من قاعدة كهذه؟ أليس في وجودها ما يدل على عدم احترام مشاعر وحسابات وحساسيات الآخرين؟ أليس فيها، أيضاً، ما يدل على حقيقة أن في وجودها ما يزيد من عدد الأصفار على قائمة علاقات تركيا مع دول في الإقليم والعالم؟