الداعية يوسف القرضاوي.(أرشيف)
الداعية يوسف القرضاوي.(أرشيف)
الخميس 29 يونيو 2017 / 19:17

عن المفاوضات والفتوى

لا يبدو أن شيئاً جوهرياً قد تغير منذ مطلع القرن الماضي، المحاولة الأولى للخروج من الدائرة واختراق المتوالية كانت في "كامب ديفيد" حين حول "السادات" انتصار الجيش المصري في "حرب أكتوبر" إلى غطاء لتوقيع "اتفاقية" مع "مناحيم بيغن"

تجلس المنطقة على كومة هائلة من "المفاوضات" وتعبر فوقها غيمة، حيث يتراكم كل شيء دون تدبير واضح، تحدث الأشياء للناس وتتشكل مصائرهم في غرف بعيدة عن أسرة بناتهم وأبنائهم، حيث يواصل أشخاص منذ عقود وضع الجداول والنقاط والمطالب في متوالية راسخة لا نهاية لها، متواليات يطلقونها في فضاء خاص بهم ومتفق عليه، بحيث يبدو "التفاوض" أقرب الى صندوق متوارث ينقله جيل من السياسيين المحترفين الى جيل آخر مثل أمانة يصعب التخلص منها.

في المركز من كل هذا حيث تتحرك نواة المفاوضات مع الحكومات الإسرائيلية بتحولاتها وتحولات ائتلافاتها، الصراع الفلسطيني- الاسرائيلي هو المركز تماماً، هناك تتشكل ملامح الآخرين وتكتسب حواسها وأطرافها، "اسرائيل" التي تسعى في استراتيجية عميقة وراسخة للوصول إلى الاقليم عبر صراعها مع الفلسطينيين وبواسطته عبر:
نبدأ من "هناك" وننتهي "هنا"
فيما يحاول الفلسطينيون الوصول الى فلسطين عبر:
"نبدأ من "هنا" وننتهي "هناك".

وفي الغرفة السرية تتوزع حلقة رجال الدين، في منطقة يحكمها ماضيها وتتلقى حكمتها ويقينها من تفاسير وهوامش ومواعظ وفتاوى تمتلك بمجرد اطلاقها قوة القداسة.

لا يبدو أن شيئاً جوهرياً قد تغير منذ مطلع القرن الماضي، المحاولة الأولى للخروج من الدائرة واختراق المتوالية كانت في "كامب ديفيد" حين حول "السادات" انتصار الجيش المصري في "حرب أكتوبر" إلى غطاء لتوقيع "اتفاقية" مع "مناحيم بيغن"، ولكن الأمر انتهى إلى عزل مصر عن محيطها العربي وتفكيك نفوذها في المنطقة، بحيث بدا الأمر أقرب إلى مفارقة مؤلمة عند مقارنتها بما حصلت عليه مصر وعبد الناصر بعد هزيمة حرب يونيو (حزيران).

ورغم سذاجة "لاءات الخرطوم" الشهيرة، إلا أنها منحت مصر في ذلك الحين تفويضاً بقيادة المنطقة كانت بأمس الحاجة له. في نفس الوقت الذي كانت مصر تلم قتلاها والجيش الإسرائيلي يدخل القدس ركع الشيخ متولي شعراوي في الجزائر، حيث كان يقيم، شكراً لله على هزيمة عبد الناصر ونظامه "الشيوعي".

كان على السادات أن يستدعي رجل دين متنفذاً من الجالسين في الغرفة السرية قبل توجهه إلى "كامب ديفيد"، الشعرواي كان ضرورياً لمثل هذه الرحلة، حيث تولى وزارة الأوقاف في العام 1976 ضمن وزارة وبقي في موقعه حتى العام 1978، لم يعترض الشيخ على اتفاقية "كامب ديفيد" ودافع عن السادات ومنحه صفة شهيد بعد اغتياله، كما دافع عن الفكرة عندما منحها تفسيراً ذكياً وحمّال أوجه في تفسيره للآية في سورة البقرة "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، حين برر ذلك بقوله "الشجاعة أن تجبن ساعة".

المحاولة الثانية كانت "اتفاقيات أوسلو"، التي نهضت وانبنت على انهيار "الجبهة الشرقية" وتحطيم العراق.

اتبع اسحق رابين الذي شكل حكومة ذات أغلبية بسيطة في مطلع تسعينيات القرن الماضي نفس تكتيك السادات، حيث شكلت رشوة حزب "شاس" الديني مظلة أمان سياسية هشة على الأرض في "الكنيست"، وشكلت لها فتوى حاخام "شاس" الشرقي "عوفاديا يوسف" ممراً آمناً للسماء، الفتوى التي حملها "رابين" مثل مصباح يدوي للعبور نحو اتفاقيات أوسلو والجلوس مع ياسر عرفات والاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، والتي يمكن اختصارها بالجملة "التبريرية" "حمالة الأوجه"، المنطلقة من "مبدأ الحفاظ على النفس في الشريعة اليهودية" التي تقول، تقريباً، أن "الدم اليهودي أهم من الأرض اليهودية" وأنه يجوز التخلي عن "إقليم من أرض اسرائيل للوصول إلى سلام حقيقي" وحماية "الدم اليهودي".

"عوفاديا يوسف" نفسه الذي وصف في مقام آخر العرب، بطوائفهم دون تفريق، ب "الصراصير" و"الأفاعي" وطالب ب "طاعون" للقضاء على الفلسطينيين وإبادتهم عن وجه الأرض.

استدعاء "عوفاديا يوسف" أو عبدالله يوسف القادم من البصرة من الغرفة السرية كان ضرورياً ليتمكن حزب العمل "العلماني" وزعيمه اسحق رابين، الجندي الأشجع في إسرائيل حسب "بنغوريون"، ليتمكن من اجراء مفاوضات مع الفلسطينيين وتوقيع اتفاقية مع ياسر عرفات.

سيتراجع الحاخام الأكبر عن كل هذا بعد اغتيال رابين وخلال الانتفاضة الثانية، وسيعارض انسحاب شارون من غزة ويدعو إلى موته.
نفس الغرفة التي هبط منها "يوسف القرضاوي" ليمنح بركته للقتلة ويوزع فتاويه على الموت، والتي يطل منها "خامنئي" ليشعل الحرائق في بيوت العرب.