صزرة تعبيرية.(أرشيف)
صزرة تعبيرية.(أرشيف)
الإثنين 3 يوليو 2017 / 20:14

تجديد الحروب الأهليّة

كأنّ التاريخ سار ضد نفسه، وكأنّ الرابح أوّلا انتهى خاسراً أوّلاً، وكأنّ دورة التاريخ دارت على نفسها، وتحوّلت مع الزمن إلى تاريخ مهمل انتظر طويلاً حتّى انبعث وعاد إلى الساحة

قد يظن المراقب عن بعد أن الأمّة العربيّة أو في عبارة أخرى يؤثرها البعض "الأمّة الإسلاميّة" ولدت متكاملة منذ زمن الفتوحات أو منذ نزول الرسالة، ولا يخطر للمراقب من بعيد أن هذه الأمّة لم تكتمل في يوم، وأنّ فكرة اكتمالها كانت من نسيان التاريخ أو من توهمّه أو من أمثلة الأمّة وتصنيمها أو من مماهاتها مع الفتح أو الرسالة، لذا تغدو الحروب الأهلية في الزمن الأخير مفاجئة مباغتة، إذ لم ننظر، كما ينبغي، في تاريخنا الماضي وحسبناه منذ البدء مثالياً كاملاً، أو بمعنى آخر اعتبرناه الرسالة تجسّدت شعباً وأمّة، ولم يعننا تاريخها إلاّ بهذا القدر. لم يعننا إلاّ من حيث أنّه تاريخ الرسالة وينبغي أن يكون على مثالها.

نسينا أن تاريخ الرسالة بدأ بحرب بين مدينتين، انتصرت فيها المدينة التي دارت عليها الهزيمة طوال الحرب، وكانت هذه مقدمّة لهزيمة شاملة وانتقال سياسي وجغرافي وثقافي لم يعتم أن صار، في مدى قصير، حقيقة، فكأنّ التاريخ سار ضد نفسه، وكأنّ الرابح أوّلا انتهى خاسراً أوّلاً، وكأنّ دورة التاريخ دارت على نفسها، وتحوّلت مع الزمن إلى تاريخ مهمل انتظر طويلاً حتّى انبعث وعاد إلى الساحة.

لقد بدأ التاريخ، كما تبدأ التواريخ، بحروب مدن وقبائل، وكما تنتهي الحروب بهزائم تنقلب إنتصارات، وانتصارات تنقلب هزائم. مراكز تنتهي هوامش وهوامش تنتهي مراكز. لعبة التاريخ وبلأحرى ألعابه خدع وخيانات ولا يتوهّم أحد مساراً مستقيماً لها. الأرجح أنّ الخيانة أو الخدعة أو المؤامرة هي أمثولة التاريخ وهي لغزه وعبرته. الأرجح أنّ الحروب الأهلية هي محرّكه وهي حصيلته. ليس انبعاث الحرب الأهليّة إنبعاثاً من عدم.إنّه ضغن قد يطو ل عليه المدى وقد يكمن أجيالا لكن أساسه حي وقائم. لذا لا تفاجئنا الحرب الأهليّة ولا تغدرنا. إنّها جاهزة بل هي في صلب التطوّر, ومن الخطأ أن نعتبرها تخلّفاً تاريخيّاً أو نحسبها بنت ظرف قائم بنفسه. إنّها تعود من حيث لا نحتسب ولا نتوّقع، إذ لا نعرف متى يعود الأفراد كتلاً ومتى تنفرط الكتل. لا نعرف متى يغدو التذرر والتميّع سبباً لسيولة اجتماعيّة ومتى يغدوان سبباً لعودة الجريمة الإجتماعيّة تحت عنوان الحرب الأهليّة.

من الحرب الأهلية الّتي عصفت بخليفتين راشدين، إلى سلسلة لم تنطفئ أطوارها على مدى قرن وحولّت القرن الإسلامي الأوّل إلى مذبحة مستمرّة اختلطت فيها عوامل قبليّة وعرقيّة وثقافيّة. لقد كانت الفتوحات الأولى غلبة للنفس، بقدر ما كانت غلبة للآخرين. كانت حرب قبائل بقدر ما كانت حرب شعوب: القيسيّة واليمنيّة وتحت الرماد ضغائن شعوب لا تزال معاركها جارية، لم يستطع الدين ولا الأحلاف أن تضع حدّا لذلك أو ترسم نهاية. ما كان في وسع نظام أو إطار ولا في وسع قوّة طاغية أن تخرس ذلك النداء الذي ينبعث من العصبيّة أو ينبثّ من الدعوة إلى الهويّة الواحدة على حدّ ميشال ويلبيك في روايته "إستسلام".

دفعة واحدة تنتقل الحرب، والحرب الأهليّة، من دولة عربيّة إلى دولة أخرى. من العراق إلى سوريا إلى اليمن مروراً بليبيا. لا اسم لذلك سوى الحرب الأهليّة، والسؤال أين كانت كامنة وما الذي أخرجها على هذا الوجه قد لا يفيد. إذا كان انتقال الإنتفاضة بهذا الشكل وتلك السرعة يدلاّن على أن شيئاً يشبه التقارب بل التماثل يجمع بين أجزاء خلناها أكثر تباعداً، وأنّها في طريقها إلى أن تشكّل كياناً واحداً تتعثّر حركتها وينقلب التقارب إلى تفتت وإلى عنف داخليّ. ثمة أولويّة لهذا العنف الذي يحتبس ويكمن بقدر ما يرزح تحت كبت متطاول مديد يكاد معه أن يظهر جموداً وسكوناً فيما تتزايد حاجته إلى أن ينفجر، مهما يكن اسم الإنفجار وموضوعه. إنّها اللحظة التي تدويّ من قطر إلى قطر، توّحّد في حين تقسّم، تجمع الأباعد وتقسم الجوار، تدل على كيان فيما تهدمه وتبيّن استحالته.