هيث ليدجر بدور الجوكر .(أرشيف)
هيث ليدجر بدور الجوكر .(أرشيف)
الأربعاء 5 يوليو 2017 / 20:45

ابتسامة واسعة

السينما الأمريكية موهوبة كما السياسة الأمريكية، في شؤم استشارفها للفوضى التي هي تارة خلاَّقة، وتارة عادلة

فيلم "فارس الظلام" للمخرج كريستوفر نولان 2008، أحد أشهر أفلام باتمان، بسبب شخصية الجوكر التي قام بتجسيدها الممثل الراحل هيث ليدجر، الذي فُجِعَتْ هوليوود بوفاته المُفاجئة كفجيعتها التاريخية بوفاة الممثل جيمس دين 1931- 1955، أسطورة التمرد والمراهقة.

مات جيمس دين في حادثة سيارة. ومات هيث ليدجر 1979- 2008، بسبب جرعة زائدة من المهدئات، في نفس عام عرض فيلم "فارس الظلام" 2008. رسم المخرج البريطاني كريستوفر نولان، شخصية الجوكر بجاذبية تفوق رسم شخصية بروس وين أو باتمان، البطل الرئيسي، رجل الأعمال الطيب، فارس مدينة غوثام. لا تتسامح هوليوود كثيراً في النيل الفني من أبطال سلاسل أفلامها الشهيرة. إن رسالة كريستوفر نولان في فيلم "فارس الظلام"، تشبه رسالة الجوكر، رسالة عدمية، تخريبية، فوضوية.

في مشاجرة بين والد الجوكر، مدمن الكحول، ووالدته، أخذ الزوج سكيناً من يد زوجته، ونظر إلى الجوكر الصغير، وقال له: لماذا أنت متجهم هكذا؟ لنرسم ابتسامة على وجهك. وضع الوالد السكين في زاوية فم الطفل، هناك في الجيب الآمن بين الأسنان ولحم الوجنة من الداخل ثم دفع بالسكين للخارج، فكانت ابتسامة واسعة. يكرر الجوكر حادثة السكين مع واحد من أعدائه. في سطو على بنك، يُكلِّف الجوكر أعضاء عصابته، بأن يقتل كل منهم الآخر عند نقطة ما، بعد أداء جزء من المهمة، لكنّ الجوكر يحرق المال في النهاية، للمتعة، للعلب. ربما أراد كريستوفر نولان أن يخرج بعدمية وعبثية الجوكر إلى معنًى أعمق، إلى معنًى وجودي فلسفي. المفاجأة غير السارة لكريستوفر نولان، أن العنف في السينما الأمريكية سيبقى دائماً وأبداً، عنفاً سطحياً، ليس له عمق ما، فهو عنف تقني، بسيط وبدائي، وقريب من السجل الجنائي الإجرامي، فلا تكفي حادثة الجوكر في طفولته، لتعطيه صك القتل المجاني. الصكوك الدرامية الممنوحة للشخصية يجب أن تكون أكثر تعقيداً وتركيباً.

يسأل أحدهم، لماذا يضع الجوكر مكياجاً على وجهه؟ يرد الآخر: إنها زينة الحرب. مسحوق أبيض تتخلله شرايين وشقوق العرق ببشرة الجوكر الحقيقية، وأحمر شفاه يرسم ابتسامته الواسعة، من الوجنة للوجنة. ندوب خياطة الفم من زاويته تبدو واضحة تحت المكياج المُبقَّع القبيح. الجوكر الأب الروحي للمراهقين كما كان تشارلز مانسون زعيم الهيبي أباً روحياً لقتلة الممثلة شارون تيت. يصطاد الجوكر أحد مُقلدي باتمان، ويسخر منه في شريط فيديو ثم يقتله، ويطلب من باتمان الحقيقي أن يخلع قناعه، ويسلم نفسه، وإلا سيموت كثيرون في مدينة غوثام. المُفارَقَة أن الجوكر يضع أيضاً قناعاً. بروس وين، باتمان، يشعر لأول مرة أن مدينة غوثام تحتاج لبطل بوجه حقيقي. ألفريد خادم بروس وين المخلص، يرى أن سيده لا يفهم الجوكر الذي يحرق المال من أجل اللعب والمتعة. الجوكر لا يُمكن شراؤه أو التفاوض معه أو مجادلته. الجوكر لا يريد سوى رؤية العالَم يحترق.

ترى مدينة غوثام أن بروس وين أو باتمان، خارج على القانون، وأن عليه تسليم نفسه للجوكر كي يفدي مدينة غوثام من الموت. باتمان في النهاية يُنفِّذ ما يراه قانوناً، بيديه العاريتين، وبحسب القانون الوضعي يُعتبر باتمان خارجاً على القانون مثل الجوكر تماماً. هوليوود لا تحتمل تلك التناقضات شبه الفلسفية، ولهذا تتعقد خيوط الدراما في يد المخرج كريستوفر نولان، لا سيما في النصف الثاني من الفيلم، وتدخل صفة جديدة على الجوكر، وهي صفة الإرهابي. كيف يستوي باتمان والإرهابي في خروجهما على القانون؟ في أول مواجهة بين باتمان والجوكر، يضرب باتمان رأس الجوكر ضربةً قوية، يسخر الجوكر من باتمان قائلاً: لا تبدأ بالرأس، فتصاب الضحية بالدوار، ولا تشعر بالضربات التالية. يحب المراهقون سخرية الجوكر، ويرونها انتصارات صغيرة مؤقتة، لكنها واعدة.

يسأل باتمان: لماذا تريد قتلي؟ يضحك الجوكر مستعيداً ضحكة جاك نيكلسون المُتفجرة في جزء سابق من سلسلة أفلام باتمان، وكان نيكلسون يقوم بشخصية الجوكر أيضاً، ويقول: أنا لا أريد قتلك، ماذا سأفعل بدونك؟ أعود لسرقة رجال العصابات، لا، لا. أنت مُكمِّل لي. أنت غريب الأطوار، وأنا أيضاً. يُفجِّر الجوكر مكان حجزه، ويهرب، ويبلغ الشرطة أنه سيفجِّر مستشفى غوثام العام. في زي ممرضة يقول الجوكر لأحد ضحاياه من رجال القانون: أنا فقط أفعل الأشياء، رجال العصابات لديهم خطط، ورجال الشرطة لديهم خطط، مخططون يحاولون السيطرة على عالمهم الصغير، أنا لستُ مخططاً، أنا أحاول أن أظهر للمخططين، كم هي مثيرة للشفقة محاولاتهم للسيطرة على الأمور. يفك الجوكر قيود رجل القانون، ويقول له: قم بقليل من الفوضى، كل شيء يُصبح فوضى، أنا عميل للفوضى، هل تعرف ما هي ميزة الفوضى؟ إنها عادلة. بالطبع كلمات الفوضى تصيب المراهقين بالانتشاء.

 السينما الأمريكية موهوبة كما السياسة الأمريكية، في شؤم استشارفها للفوضى التي هي تارة خلاَّقة، وتارة عادلة. في مشهد هزلي مظلم، وقوي، يسير الجوكر في زي الممرضة، سيراً متهكماً، كأنه مُهرج في حلبة سيرك، ويُفجِّر خلفه غرف المستشفى تباعاً، وتتابعه حركة الكاميرا إلى خارج المستشفى، وهو يفجِّر بالريموت، وحدات مباني المستشفى. مشهد الممرضة، أقصى تعبير بصري للقتل البارد، يصل إليه كريستوفر نولان في فيلم "فارس الظلام". ينتصر باتمان انتصاراً هزيلاً على الجوكر في نهاية الفيلم. القانون يُطارد باتمان، فلم يعد البطل الذي تحتاجه مدينة غوثام، وتتحقق كلمات الجوكر لباتمان: إذا فقدت مدينة غوثام حاجتها إليك، ستعاملك كمصاب بالجذام.