الشاعر الفرنسي آرثر رامبو.(أرشيف)
الشاعر الفرنسي آرثر رامبو.(أرشيف)
الأربعاء 12 يوليو 2017 / 20:01

الشاعر تاجر السلاح

عام 1881 كان رامبو في عدن، يجمع المال ويخاف عليه. كان يفكر في خطورة أن يسير وهو يحمل ذهباً. كان بمقدوره أن يفتح حساباً مصرفياً في عدن، لكنه كان يشك في كل شيء بعقلية الريفي

شعور مؤلم على الفرنسيين، أن يخلط أحد ما، بين رامبو الشاعر، ورامبو العضلات. تذكرتُ هذا، وأنا أقرأ عن "فصل في الجحيم"، وهو العمل الوحيد من أعمال رامبو الذي نشره بنفسه. في تاريخ غير مُحدد من عام 1873، اتصل رامبو بدار نشر في بروكسل، وقبلتْ الدار نشر الديوان على حساب المؤلف، ولم تشترط عليه غير تقديم دفعة أولى من المبلغ المالي المُتفق عليه. وافقتْ السيدة رامبو شديدة القسوة، على دفع نفقات النشر دون إشارة فرح أو حزن.

 أقنعها رامبو الابن أن ديوانه سيحقق له المجد، لكن السيدة رامبو كانت مُتجاوزة شروح المجد. دفعتْ الوالدة المبلغ المالي المطلوب، وبدأتْ طباعة 500 نسخة. سافر رامبو إلى بروكسل، واستلم النسخ القليلة الخاصة به، وسلك درب العودة إلى فرنسا. من المرجح أن رامبو لم يدفع لدار النشر سوى العربون، ومن المستبعد أن تكون السيدة رامبو والدته تراجعتْ عن دفع المبلغ المتبقي لدار النشر، فهي قادرة على الاحتقار، على القسوة، على الجهامة، لكنها لن تتراجع في أمرٍ وافقتْ عليه بازدراء. لم يبق أمامنا سوى احتمال فقدان رامبو لطموحات المجد المُنْتَظَر، وإنفاقه مال الكتاب. ظل كتاب "فصل في الجحيم" بمخزن الناشر، وعُثر عليه صدفة عام 1901.

في عام 1881 كان رامبو في عدن، يجمع المال ويخاف عليه. كان يفكر في خطورة أن يسير وهو يحمل ذهباً. كان بمقدوره أن يفتح حساباً مصرفياً في عدن، لكنه كان يشك في كل شيء بعقلية الريفي. في النهاية فضَّل أن يبعث المال لوالدته السيدة رامبو الفلاحة الواعية الشاطرة، التي اشترتْ بالمال أرضاً بعقار. علم رامبو بموضوع الأرض، وخاب أمله، وقال للسيدة والدته: ما هذا البلاء. ماذا سأفعل بهذا العقار؟ السيدة رامبو، سيدة الواقع، فهي تجابه غضب الابن، بالصمت والجهامة والبرود، وهي أسلحة مُجَرَّبَة مع الابن الشاعر الذي يعود قائلاً: إذا احتجتِ أي شيء، فخذي ما أملك، إنه لكِ، بالنسبة لي، فأنا لا أملك أحداً آخر أفكر فيه، ما عدا شخصي، وهو لا يطلب شيئاً. في المستقبل لم يرسل رامبو أي مبلغ آخر إلى السيدة رامبو، ووضع ما كان يدخره من نقود، في بنك للتوفير بعدن، وبفائدة مقدارها أربعة ونصف بالمئة. كافح كثيرون من شعراء ومؤرخين ونقاد، في صد دناءة الرغبة في المال، عن صاحب "فصل في الجحيم"، مرةً بأنه لم يكن يملك روح التاجر، ومرةً بأن غرقه في البحث عن المال، هو صمته العظيم عن الشعر، وكأنَّ وصل النصف الأول من حياة رامبو، بالنصف الثاني من حياته، سيحطم الأسطورة.

في عام 1885 التقى رامبو رجلاً فرنسياً يدعى بيير لاباتوت، قدَّم لرامبو عرضاً تجارياً، يتعلق باستيراد السلاح إلى شوا، ذلك الإقليم التابع لبلاد الحبشة، والذي يقيم فيه الملك منيليك. قال لاباتوت لرامبو إنه استلم من الملك وعدد من أصحاب الجاه في البلد، طلباً كبيراً في شراء الأسلحة، لغرض استخدامها في العمليات الحربية التي كان يجري الاستعداد لها. وافق رامبو على العرض الذي تضمن شراء بنادق عتيقة من فرنسا، بسبعة أو ثمانية فرنكات للقطعة الواحدة، وتقديمها للملك منيليك الذي كان في أشد الحاجة إليها، وسيدفع بسخاء عاجاً ومسكاً وذهباً، ما يُعادل أربعين فرنكاً للقطعة الواحدة. هل كانت مُغامَرَة؟ يحب الشعراء والمؤرخون والنقاد، إطلاق اسم "المُغامَرَة"، على تجارة السلاح، وربما يقولون أيضاً "مُغامَرَة وجودية" أو "مُغامَرَة الصمت الكبير". وصلتْ الكمية المطلوبة من الأسلحة. ألفان وأربعون بندقية، وستون ألف خرطوشة من نوع ريمنغتون. قام رامبو بنقل السلاح إلى منزله، وسهر على حراسته، أشد من سهره على "فصل في الجحيم".

في 1891 كتب رامبو للسيدة والدته: لستُ على ما يرام في الوقت الحاضر. أنا مصاب بتوسع أوردة ساقي اليمنى، وهذا يسبب لي ألماً كبيراً. سترسل له السيدة رامبو مرهماً لمسح الأوردة المتوسعة، وجوربين من المطاط طلبتهما من باريس. لم يكن أمام رامبو سوى العودة إلى فرنسا، وبتر الساق من موضع أعلى الفخذ. أرسل رامبو برقية إلى السيدة رامبو. اليوم أنتِ وإيزابيل تأتيان إلى مارسيليا بالقطار السريع. سيبترون ساقي. ردت السيدة رامبو. سأصل غداً مساءً. تشجع واصبر. تمت عملية البتر. وكتبتْ إيزابيل شقيقة رامبو: إلتأم الجرح بسرعة فائقة، وهذا ما أدهش الأطباء، وقالوا بأنهم لم يروا من قبل بنية بهذه القوة. اعتقد رامبو أن صحته قد تحسنتْ، فأرسل رسالة إلى صديق: أكتب لك من مارسيليا. أنا في المستشفى. بُتِرَتْ ساقي قبل ستة أيام. أنا في صحة حسنة الآن، وسأشفى في غضون ثلاثة أسابيع، وأتوقع أن أعود إلى هرر، للعمل في التجارة كما كنت في السابق. لم يقل رامبو مثل الشعراء والمؤرخين والنقاد اللاحقين، سيعود إلى المُغامَرَة، بل سيعود إلى التجارة.