من معرض وضاح صالح.(أرشيف)
من معرض وضاح صالح.(أرشيف)
الإثنين 17 يوليو 2017 / 20:05

معرض بيروت: نصف المدينة

اللحظة الّتي مهّدت للحرب الأهليّة غائبة هنا والحرب الأهليّة نفسها غير ملحوظة في التطوّر الفكري والفنّي، كأننا هنا على ضفّة واحدة وجانب واحد لم تداخلهما الأحداث والظروف

معرض بيروت الذي نظمّه وقدّم له وضّاح فارس، أحد أهمّ الناشطين الثقافيين، عُلّق على جدران غاليري صالح بركات التي كانت في الأصل "مسرح المدينة" الذي انتقل إلى مكان آخر فيما تحوّل إلى صالة عرض باذخة. المعرض يغطّي خمس عشرة سنة بين 1960 و1975، وهذه الفترة الآتية سبقت بل حاذت الحرب الأهلية، هي فترة تحوّل تاريخي في الوقت الّذي كانت فيه فترة تحوّل ثقافي في الفنّ والفكر والسياسة الّتي كانت الحرب الأهلية من علائمها.

 لقد تعمّم النموذج اللبناني: اقتصاد الخدمات، الوساطة الإقتصاديّة والثقافيّة بين الغرب والعالم االعربي. هذا في الوقت الّذي كانت المنطقة كلّها تعاني آثار هزيمة يونيو (حزيران) وخروج المقاومة الفلسطينيّة من الأردن متراجعة امام الجيش الأردني، قبل أن يغريها ضعف لبنان وانقساماته الطائفيّة بإتخاّذه بديلاً عن الأردن لتدخله المقاومة التي سرعان ما صارت في قلب الصراع اللبناني. تعميم النموذج اللبناني كان أدعى لاستفحال صراعاته، كما كان في ذاته نقلة له إلى أمكنة أخرى. الأرجح أن شمول النموذج الذي أسسه وبناه المسيحيون لبقيّة اللبنانيين والطرف المسلم بخاصّة رفد هذا النموذج بعناصر أخرى وأسماء جديدة وإتجّاهات مختلفة. لقد اشتمل على روافد جاءته من تعدده وداخله كما جاءته من محيطه العربيّ والعالميّ. كان من أجلى ظواهر هذه النقلة اتجاهها إلى اليسار كجزء من الوساطة العريقة بين الغرب والمحيط العربي. اليسار هذه المرّة لم يكن سوفيتياً. كان بالدرجة الأولى يعكس السجال السياسي والنظري لليسار الأوروبي، لعل تأسيس منظمّة العمل الشيوعي كان مثال هذه الوجهة.

معرض بيروت لوضاح فارس محاولة لرصد مرحلة وبناء تاريخ، وليس اختيار الفترة اعتباطاً. فالأرجح أن مكانها من تاريخ لبنان والمنطقة كان دافعاً لتجسيم الدور البيروتي من مزاوجة الفن بل الفنون بالمسارات الثقافيّة. هكذا نرى على حيطان الغاليري أعمالاً وصوراً فوتوغرافيّة لعارف الريّس وناديا صيقلي وشفيق عبود وسعيد عقل المصوّر ورفيق شرف وأمين الباشا وفريد حداد وسيتا مانوكياّن وسلوى روضة شقير وهوغيت كالان وهلن الخال وستيليوسكمانغا ومنى حاطوم وأسّادور وبول غيراغوسيان ومنير نجم وجانين ربيز وسيزار نمّور وألفرد بصبوص وبريجيت شحادة ومي خوري وغسّان تويني وفرانسوا عقل وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وعصام محفوظ وليلى بعلبكي ونزيه خاطر ومروان حمادة وميشال أبو جودة وألين ثابت وروجيه نعيم. أمّا مدى لبنان العربي فتمثّل في أعمال وأشخاص: شاكر حسن آل سعيد وضياء العزّاوي وإسماعيل فتّاح وغياث الأخرس ونهى الراضي ورافع الناصري وفايق حسن ومحمّد غني حكمت. أما المدى العالمي الّذي يحتفل به المعرض فمتمثّل في شتوكهاوزن وماكس إرنست وأندريه ماسون فضلاً عن الأشخاص هنا مجلاّت: "حوار" أوّلاً، "شعر" مذكورة بأشخاصها وغير مسمّاة مع ذلك.

لا شكّ أن لبنان بأبعاده الثلاثة حاضر في معرض وضّاح فارس غير أنّ لبنان المعروض هنا يسبق الزمن الذي رسم له. بل نحن هنا، إذا فكرّنا في الظرف التاريخي، في طور التأسيس، بل نحن قيد إغفال للحظة التاريخيّة، بحيث تستوي أدوارها و مراحلها. الأكيد أن اللحظة الّتي مهّدت للحرب الأهليّة غائبة هنا والحرب الأهليّة نفسها غير ملحوظة في التطوّر الفكري والفنّي، كأننا هنا على ضفّة واحدة وجانب واحد لم تداخلهما الأحداث والظروف، ولم يعرض لهما التحوّل التاريخي، ولم يتأثرّا، إلاّ على نحو احتفاليّ، بالمحيط والعالم. هكذا نرى مجلّة "حوار" ولا نرى مجلّة الآداب الّتي لعبت دوراً في الثقافة اللبنانيّة والعربيّة.

 هكذا نجد تقريباً كلّ جهاز جريدة "النهار" ولا نجد إشارة واحدة إلى جريدة "السفير"رغم أنّ جريدة السفير بألمع ثنى التاريخي للكلمة، هي الأقرب إلى تمثيل التحوّل الذي حملته الفترة الّتي يتناولها المعرض، ثمّ أنّ العرض الفكري يكاد يقتصر على أجواء جريدة النهار، في حين أنّ التحوّل الثقافي الأبرز مثّلته "منظمّة العمل الشيوعي" الّتي مثّلت النخبة الجديدة والضفّة الثانية للتحوّل الفكري وقدّمت أسماء وضاح شرارة وأحمد بيضون وفوّاز طرابلسي وحسن قبيسي وعلي حرب وجوزيف سماحة وحازم صاغيّة، أي نسبة ملحوظة ممّن نطلق عليهم اسم المفكّرين. في معرض وضاح فارس نجد النموذج اللبناني في أوليته وقبل أن يدخل في أزمته المستديمة.