جنود إسرائيليون على مدخل باحة الأقصى.(أرشيف)
جنود إسرائيليون على مدخل باحة الأقصى.(أرشيف)
الأحد 23 يوليو 2017 / 19:13

إسرائيل وحسابات التصعيد في القدس!

الجبهة الداخلية الفلسطينية تعاني من خلل فادح بعد الانقسام، الذي افتتحته حماس بالاستيلاء على قطاع غزة، ونار الإرهاب والحروب الأهلية

تُطلق في التقاليد والأدبيات الدينية اليهودية تسمية جبل الهيكل على منطقة الحرم في القدس. ومَرجع التسمية مرويات حول الموقع المُحتمل لهيكل سليمان، الذي دمّره الرومان في العام 70 للميلاد. وعلى الرغم من حقيقة أن أعمال التنقيب، خاصة بعد وقوع الحرم في قبضة الإسرائيليين في العام 1967، لم تسفر عن دليل يُعتد به في هذا الشأن، إلا أن هذه المرويات تحتل، اليوم، مركز القلب، في أيديولوجيا وخطاب المعسكر القومي ـ الديني في إسرائيل.

والمفارقة أن الموقف التقليدي لليهودية الأرثوذوكسية، وهي التيار السائد والرئيس في اليهودية، يتناقض مع موقف المعسكر القومي ـ الديني، الذي تبلور فعلياً في العقود القليلة الماضية. إذ تعاملت المرجعيات الدينية اليهودية، على مدار قرون طويلة، مع هدم الهيكل بوصفه تعبيراً عن العقاب الإلهي، وحرّمت على اليهود حتى مجرّد الاقتراب من مكانه المُحتمل، خوفاً من تدنيسه، ولم تُجز سوى إمكانية رؤيته من مكان بعيد.

وبقدر ما يتعلّق الأمر بما يُعرف اليوم بحائط المبكى، والذي يُعتقد أنه ما تبقى من سور خارجي للهيكل، فإن زيارته، والتعامل معه كرمز ديني، بالطريقة المعروفة في الوقت الحاضر، حديثة العهد لا تعود إلى أكثر من قرون قليلة مضت، وأحدث منها بكثير مزج دلالته الدينية بدلالات سياسية وقومية مُستحدثة.

وهذا ما لفت انتباه يشعياهو ليبوفيتش، أحد أهم المفكرين في إسرائيل، بعد العام 1967، عندما هدمت قوّة الاحتلال حي المغاربة القريب من الحائط، وأنشأت ساحة عامّة للزيارة والطقوس الدينية. كان ليبوفيتش صهيونياً متديناً من الجناح التقليدي القديم، وأدرك خطورة استيلاء أيديولوجية قومية مُتطرّفة على الرموز الدينية، لذلك أطلق على ما رافق حائط المبكى، في صورته ورمزيته الجديدة تسمية "ديسكوتيك حائط المبكى".

على خلفية كهذه يمكن استبطان المعاني العميقة للعلاقة المعقدة، التي حكمت موقف الاحتلال من القدس بعد العام 1967. فقد تم ضم القدس الشرقية، وفيها أهم المعالم الدينية الإسلامية والمسيحية، ولكن محاولة بسط السيادة على منطقة الحرم، والمدينة القديمة، كانت وما تزال ذات حساسية خاصة، فرمزيتها تتجاوز الصراع في فلسطين وعليها، وتتصل بالعالمين العربي والإسلامي، والعالم بشكل عام. وهذا يصدق، أيضاً، على المعالم الدينية المسيحية.

لذلك، تمثّلت عملية بسط السيادة في استراتيجية مزدوجة يتمثل شقها الأوّل في خلخلة الوضع الديمغرافي بما يُقلّص من أعداد العرب الفلسطينيين مقابل زيادة أعداد اليهود الإسرائيليين، أما الشق الثاني فيتمثل في خلق وقائع جديدة رمزية وعملية على الأرض، وقضم ما يمكن قضمه بالتدريج، لفرض حقائق جديدة، بما فيها تجسيد السيادة على الأرض، وإيجاد موطئ قدم في الحرم على طريق اقتسامه زمنياً ومكانياً مع المسلمين.

وفي سياق كهذا، يندرج وضع بوابات إلكترونية في الأقصى، بعد عملية مُسلّحة وقعت هناك، وما نجم عنها حتى الآن، وما يمكن أن ينجم من تصعيد يُمهّد لمجابهة جديدة على طريقة الانتفاضة الثانية، بعد دخول شارون بطريقة استفزازية باحات المسجد الأقصى.

لذا، من المؤكد أن صانعي القرار في الحكومة الإسرائيلية أدركوا مُسبقاً ما يمكن أن ينجم عن الدلالة الاستفزازية للبوابات الإلكترونية من تصعيد لا في القدس الشرقية وحسب، ولكن في كل فلسطين بحدودها الانتدابية، أيضاً. ومع ذلك، لم يردعهم ما حدث قبل 17 عاماً، عن الإقدام على خطوة كهذه. ولا يبدو من قبيل المجازفة القول إن التصعيد يبدو مطلوباً من جانب الإسرائيليين هذه المرّة، أيضاً، استناداً إلى قراءة خاصة لأوضاع محلية وإقليمية ودولية تبدو مواتية لخلق حقائق جديدة.

فالجبهة الداخلية الفلسطينية تعاني من خلل فادح بعد الانقسام، الذي افتتحته حماس بالاستيلاء على قطاع غزة، ونار الإرهاب والحروب الأهلية، التي اشتعلت وما تزال، في أكثر من مكان في الإقليم، أسهمت في زعزعة المكانة التقليدية للقضية الفلسطينية، وبالقدر نفسه فإن موجة الإرهاب التي ضربت العالم، معطوفة على الصراعات والحروب الأهلية، ومعها الميليشيات المُسلّحة غير النظامية، ومشاريع الهيمنة التركية والإيرانية، نقلت الاحتلال الإسرائيلي، في نظر الكثير من القوى الفاعلة في العالم، من البند الأوّل على جدول الأعمال، إلى مجرد بند في ذيل القائمة.

بهذا المعنى، يعتقد الإسرائيليون أن الظروف مؤاتية، والمشكلة في قراءة كهذه أنها لا تقيم وزناً للتكاليف السياسية والبشرية الباهظة، وشتى صنوف العذاب، التي يمكن أن تنجم عن تصعيد يختلط فيه الديني بالسياسي (وكأن المنطقة ينقصها المزيد)، ولا تريد الاقتناع، أيضاً، بحقيقة أنها لا تُقرّب فرص السلام في هذا الجزء من العالم بل تطردها بقوّة من مشهد مضطرب لا ينفتح على أكثر من احتمال الكارثة.