من الاحتفالات خلال ثورة يوليو.(أرشيف)
من الاحتفالات خلال ثورة يوليو.(أرشيف)
الأربعاء 26 يوليو 2017 / 17:43

23 يوليو أيضاً وأيضاً!

جاء الانقلاب الناصريّ ليغلق التاريخ ويخنق احتمالات الحرّيّة: زعيم واحد. تنظيم سياسيّ واحد. إيديولوجيا رسميّة حاكمة. مصادرة للمجتمع

كلّ عام، في مثل هذا اليوم (23 يوليو – تمّوز) تبدأ حفلة ندب: يا عبد الناصر أدركنا. وككلّ ندب، تُستحضر الفضائل المنسوبة إلى الراحل: الكرامة. المجد. دخول التاريخ إلخ...

هناك من اعتبر أنّ "ثورة يوليو" التي قادها عبد الناصر في 1952، هي التي "رفعت رؤوس المصريّين والعرب". هناك من اعتبر أنّنا دخلنا، بعد رحيل عبد الناصر، "الزمن العربيّ الرديء".

أغلب الظنّ أنّ هذا الخليط من الندب والتمجيد السنويّين دليل لا يخطئ على تردّي أحوالنا. على رداءة حاضرنا. على استعاضتنا بالماضي – كائناً ما كان – عن المستقبل الذي لا يلوح له أثر في حياتنا. على أنّ "الحنين" لا يزال أكثر بيوتنا أماناً.

واقع الحال أنّ انقلاب 23 يوليو 1952 لا يمتّ بصلة إلى تلك الأوصاف التي تُسبغ عليه. فبعد انقلابات عربيّة قليلة وأقلّ أهميّة بلا قياس (بكر صدقي في العراق عام 1936 وحسني الزعيم في سوريّا عام 1949)، جاء الانقلاب الناصريّ ليعلن موت السياسة في مصر، ومن ثمّ في العالم العربيّ.

هذا هو "إنجازه" الأهمّ الذي حاول محمّد نجيب أن يتفاداه، بمطالبته باستعادة الحياة السياسيّة والحزبيّة ورجوع الجيش المصريّ إلى ثكناته. لكنّ نجيب انتهى الأمر به إلى الإقامة الجبريّة في 1954، بعد صدام معه نظّمه ورتّبه عبد الناصر وكان شعار "تسقط الحرّيّة" أحد شعاراته.

ما سبق قوله لا يعني أنّ الحياة السياسيّة في مصر والعالم العربيّ كانت ناصعة البياض قبل الانقلاب. فتلك البلدان التي كانت تستقلّ أو توالي الخروج من مظلّة الانتدابات الأوروبيّة عليها، كانت تباشر شيئاً جديداً: إنّه التعرّف على السياسة بمعناها الحديث وامتحان نفسها في زمن جديد. كان طبيعيّاً أن يترافق هذا كلّه مع تعثّر في الأداء ومع فساد في الممارسات، ناهيك عن الأوضاع الموروثة والمعطّلة للتقدّم، كأحوال الزراعة وملكيّات الأراضي الكبرى، وقوّة ولاءات ما قبل الدولة (مذاهب، طوائف، إثنيّات الخ...)، وأحوال المرأة.

بيد أنّ الحفاظ على البُنى والعلاقات التي نشأت في الحقبة الماضية، كالبرلمانات والمؤسّسات والإدارات والحرّيّات النسبيّة الحزبيّة والإعلاميّة والنقابيّة، كان يوفّر أسباباً جديّة للرهان على تذليل المشكلات وتأسيس حياة سياسيّة تصحّح نفسها بنفسها، وعلى إعطاء الأولويّة في صنع المستقبل الأفضل للفعل والمبادرة الإنسانيّين.

وجاء الانقلاب الناصريّ ليغلق التاريخ ويخنق احتمالات الحرّيّة: زعيم واحد. تنظيم سياسيّ واحد. إيديولوجيا رسميّة حاكمة. مصادرة للمجتمع...
تقليد هذا النموذج ما لبث أن عمّ عربيّاً في مناخ تكتنفه الحرب الباردة. في 1958 وجدت سوريّا ما يغريها فيه فهدمت ديمقراطيّتها التي كانت في المهد لتذيب نفسها في "الجمهوريّة العربيّة المتّحدة". وما لبث الضبّاط العراقيّون أن قلّدوا ذاك النموذج بانقلاب شهده صيف 1958 واصطبغ بدم كثير. كذلك حاول ضبّاط أردنيّون الأمر نفسه لكنْ، لحسن الحظّ، لم يُكتب لهم النجاح. ثمّ عاشت الانقلابيّة العسكريّة طويلاً فسقطت فيها ليبيا عام 1969 على يد معمّر القذّافي. وبعد عام نفّذ حافظ الأسد، في سوريّا، انقلاباً على الانقلاب.

لقد افتتح عبد الناصر أسوأ الزمن العربيّ لجهة إعدام شروط التصحيح وتدمير القدرات الذاتيّة التي كان يمتلكها المجتمع المصريّ ومجتمعات عربيّة أخرى. ووسط ضجيج مبالغ فيه حول العداء للاستعمار ولإسرائيل، بات صاحب الرأي الآخر هو العدوّ الفعليّ.

وهذا النهج انهزم مرّتين كبريين على الأقلّ: في 1961 حين انفصلت سوريّا عن "دولة الوحدة" ووجّهت ضربة قاصمة للعروبيّة الناصريّة، وفي 1967 عندما حلّت الهزيمة الكبرى. وعلى رغم ذلك، وعلى رغم 65 عاماً على انقلاب يوليو، لا يزال بعضنا يتناوله كما لو أنّه وعدنا للمستقبل!