محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية المصرية.(أرشيف)
محمد نجيب، أول رئيس للجمهورية المصرية.(أرشيف)
الخميس 27 يوليو 2017 / 20:45

عبد الناصر ومحمد نجيب... بين الثورات والقطط

«عبد الناصر» كان شخصاً متزناً وعاقلاً ومتسامحاً، إلا فى حالة واحدة، هى أن يستمع إلى اسم «محمد نجيب» لحظتها كان يفقد كل إتزانه، وكل تعقله وكل تسامحه!

بعد أكثر من ثلاثين عاماً، مرت على رحيله عن الدنيا، تذكر المصريون فجأة، اللواء "محمد نجيب" - الزعيم الواجهة لثورة 23 يوليو 1952، وأول رئيس لمصر الجمهورية - بمناسبة إطلاق القوات المسلحة المصرية، لاسمه على أول قاعدة عسكرية متكاملة تقوم بإنشائها.

وكما هى العادة، فقد عاد اسم اللواء "نجيب" من الماضى محملاً بغبار التاريخ، وبالخلاف الحاد الذى دار بين الذين عاصروه، أو أرخوا له، حول دوره فى تاريخ ثورة يوليو، فرحب البعض منهم بالقرار واعتبروه إنصافاً لأشهر المظلومين فى تاريخ هذه الثورة، وانتهزوا الفرصة لكى يتذكروا، ويذكروا الآخرين بفصل من كتاب "سيئات يوليو" التي وضعت أول زعيم لها قيد الإقامة الجبرية، لمدة تقترب من عشرين عاماً متصلة، قضاها فى قصر مهجور، في إحدى ضواحي القاهرة، لم تكن مصادفة أنه كان مملوكاً للسيدة "زينب الوكيل" - حرم الزعيم "مصطفى النحاس" الذي تولى زعامة الحركة الوطنية المصرية بين عامى 1927 و1952، قبل أن تصادر "محكمة الثورة" هذا القصر، ضمن ما صادرته من أملاكها، ولم يكن يؤنس وحدة اللواء نجيب خلال تلك السنوات الطويلة، سوى أسراب من القطط كان يربيها ويبثها أحزانه، ويشكو إليها ما فعله به رفاق الثورة التي قادها لمجرد أنه - في رأي الذين رحبوا بالقرار - دافع عن الديمقراطية، وتصدى للديكتاتورية والاستبداد. 

وعلى العكس من هؤلاء، فقد اعترض آخرون على القرار، لأنهم يعتقدون أن "محمد نجيب" نفسه، وليس قرار عزله واعتقاله - هو صفحة من كتاب سيئات الذين انقلبوا على الثورة وتحالفوا مع أعدائها، وأن تخليد ذكراه بإطلاق اسمه على القاعدة العسكرية، ينطوي على إدانة لثورة يوليو وعدوان على تاريخها.

ولم يكن ما حدث للواء "محمد نجيب" - كما زعم الذين رحبوا بالقرار واحتفوا به، هو الأول أو - الأقسى - من نوعه في تاريخ معظم ثورات العالم، من الثورة الفرنسية التى أطاحت المقصلة برؤوس عدد من قادتها، بأحكام - أو أوامر - أصدرها زملاؤهم فى النضال، إلى الثورة السوفييتية التى أعدم "ستالين" - خلال الأعوام الثلاثين التؤ تولى فيها الحكم - مئات من رفاقه الذين شاركوه فى أحداثها، ولم تكن الثورات التي وقعت فى العالم العربي، بعيدة عن القانون الذى صاغه أحد "زعماء الثورة الفرنسية"، حين وصف الثورات بأنها - كالقطط - تأكل أبناءها، فما أكثر ما انتهى الصراع على السلطة، بين قادة الثورات العربية إلى خلاف، يظل يتصاعد إلى أن يسفر عن انفراد أحدهم بالسلطة، ليضع الآخر أو الآخرين فى السجن، أو يصدر حكماً بإعدامه أو إعدامهم.. حدث هذا - بعد الصراع بين "محمد نجيب" و"جمال عبد الناصر" - وبين "عبد الكريم قاسم" و"عبد السلام عارف" فى العراق، وبين "بورقيبة" و"صالح بين يوسف" فى تونس، وبين "بومدين" و"بن بلّا" فى الجزائر، وبين "معمر القذافي" وشركائه فى قيادة الثورة الليبية، بل وحدث قبل ثورة يوليو 1952، وفى ظل الحكم المدني الديمقراطي، حين استغل "مصطفى النحاس" إعلان الأحكام العرفية - بسبب الحرب العالمية الثانية - ليأمر باعتقال شريك كفاحه "مكرم عبيد" وأنصاره بسبب انشقاقه عن حزب الوفد، وإصداره كتاباً أسود عن سيئات حكمه!

ولم يكن "محمد نجيب" هو الوحيد من قادة ثورة 23 يوليو 1952، الذي أسفر الخلاف بين "عبد الناصر" وبينه إلى سجنه أو ما يشبه السجن، فقد لحق هذا المصير بآخرين، من رفاق عبد الناصر، كان من بينهم "يوسف صديق" الذي اعتقل لشهور بعد انتهاء أزمة مارس 1954، و"خالد محيى الدين" الذي نفى إلى سويسرا فى الفترة نفسها ليمضي ما يزيد على العام في هذا المنفى، و"عبد المنعم عبد الرؤوف" الذي حكم عليه بالإعدام بتهمة المشاركة فى التخطيط لمحاولة الإخوان المسلمين اغتيال عبد الناصر عام 1954، ولم ينقذه من تنفيذ الحكم سوى نجاحه فى الهرب من البلاد، التي لم يعد إليها إلا فى عهد السادات.

ولم يكن هؤلاء هم الوحيدون من أعضاء مجلس قيادة الثورة، الذين اتخذت بحقهم إجراءات نقلتهم من قمة السلطة إلى زنازينها أو منافيها فى المرحلة الأولى من الثوة، بل شملت هذه الإجراءات العقابية القاسية اثنين آخرين من أعضاء هذا المجلس، شاركوا "عبد الناصر" فى السلطة لسنوات طويلة، هما "كمال الدين حسين" الذى حددت إقامته لشهور قليلة، بسبب تعاطفه مع أفكار "سيد قطب" و"عبد الحكيم عامر" أقرب أعضاء المجلس إلى قلب "عبد الناصر"، قبل أن تتدهور العلاقات بينهما فى أعقاب هزيمة 1967، وتنتهى باعتقال "عامر" وتحديد إقامته، ثم انتحاره!

وعلى عكس هؤلاء جميعاً، وغيرهم من أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، بل ومن قادة وسياسيى (العهد السابق على الثورة، الذين كان عبد الناصر يعتبر ما يتخذه ضدهم إجراءات وقائية ومؤقتة لا تستمر طويلا) والذين كان يعفو عنهم بعد أن يطمئن إلى خطرهم عن السلطة قد زال، فقد لفتت القسوة التى تعامل بها مع "محمد نجيب" نظر كل معاصريه، بما فى ذلك "خالد محيى الدين" الذى قال لى مرة، إن "عبد الناصر" كان شخصاً متزناً وعاقلاً ومتسامحاً، إلا فى حالة واحدة، هى أن يستمع إلى اسم "محمد نجيب" لحظتها كان يفقد كل إتزانه، وكل تعقله وكل تسامحه! وكان هذا هو السبب الذى جعله يصر على إبقائه رهن الإقامة الجبرية، لمدة تصل إلى ما يقرب من عشرين عاماً، لم تدفع عنه إلا بعد رحيله عن الدنيا، ليسترد "محمد نجيب فى عهد السادات" حريته، ويغادر قصر زينب الوكيل، الذى أمضى به كل هذه السنوات وحيدا إلا من سرب من القطط كان يربيها ويبثها أحزانه، ولا بد أنه كان يسألها كل صباح، عما إذا كانت الثورات حقا، كالقطط تأكل أبناءها!