صورة تعبيرية.(أرشيف)
صورة تعبيرية.(أرشيف)
الجمعة 28 يوليو 2017 / 17:16

عقول تنتظر الانقراض

دور كبار السن لا يتلاشى؛ هو يتجدد فحسب. وذلك أصدق ما يكون في مجتمعاتنا الحميمية المتقاربة، حيث يتركون بصمتهم في تدبير الزيجات، أو التمسك بالعادات والتقاليد

أخبرتني بعينين مغرورقتين بالدموع بأن والدها -ذلك الشيخ الجليل- قد عاقب ابنها بالضرب المبرح. ولم أكد أستنهض ماردي المُسخّر لإيجاد الحلول، حتى جاء ردها واضحاً ومثبطاً.

قالت "إن اقتناع والدي بالضرب لن يتغيّر يوماً، فلا أستطيع مواجهته ومعاتبته، أو انتقاده أمام ابني. كل ما أملته هو ألا يمعن في العقاب".
تمهلوا قليلاً قبل هز رؤوسكم تفهّماً؛ الأم ليست قنوعةً أو واقعيةً.

أشك أحياناً بأن الجريمة الأبشع التي نقترفها في حق كبار السن ليست في إيداعهم دور العجزة، أو سرقة أموالهم، أو أي من تلك المآسي التي تزخر بها مسلسلاتنا. بل في التعامل معهم كما لو كنا نرى تاريخ انتهاء الصلاحية الفكرية على جباههم، فهم "راحلون لا محالة" –بالمعنى الحرفي-، وعقلياتهم ستموت معهم، ولن تجدي حتى ذلك الحين سوى المسايرة والدبلوماسية والإذعان.

شخصياً، لا أرغب في تخيل الإذلال والمهانة التي سأستشعرها حين يتقدّم بي السن –وتلك مسألة وقتٍ-، فإذ بالمحيطين بي ييأسون من مجرد نقاشي وحواري، وتنويري وتثقيفي، ناهيك عن أن يقودوني إلى فتح صفحة جديدة بالفعل لأمحو من خلالها أخطائي وهفواتي!
أيعقل أن يجتمع في قلوبنا حب كبارنا واحترامهم، مع استسخافهم إلى حد التشكيك في أهليتهم؟

ولكن الألم الحقيقي سيكون في ألا يعترف المحيطون بي أساساً بقدرتي على إحداث الضرر، فيتركوني سلاحاً فتاكاً على نفسه وغيره، على إرثه وحاضره، والمستقبل الباقي من بعده.

اعذروا مثالي الغريب، ولكن 2016 قد قدمت لنا درساً تاريخياً بهذا الصدد، وتحديداً إلى أمثال صديقتي التي بات أقصى طموحها ألا يُفرط أبوها في تطبيق الخطأ، عوضاً عن أن ترشده إلى الصواب.

ذلك الدرس هو استفتاء "بريكست" لبقاء المملكة المتحدة ضمن الاتحاد الأوروبي.
فمثلنا تماماً، اعتاد الغربيون على تجاهل الأفكار المتوجسّة من الغير والعنصرية التي تحملها أجيالهم الأكبر سناً. إنهم "من زمنٍ مختلفٍ"، و "لا طائل من نصحهم"؛ هذا ما سيواسيك به أي شاب غربي لو تعرضت لإهانةٍ عنصريةٍ من إحدى العجائز المتذمرات. كما سيعدك باختلاف الأجيال الناشئة.
ولكن حين دقت ساعة الحسم، توجّهت هذه العقليات "المهددة بالانقراض" –كما يحلو لنا أن نتصور- إلى صناديق الاقتراع، وأحدثت التغيير الذي تنشده. وعودوا إلى الأرقام، 56% ممن هم بين الـ50 والـ64، و61% ممن تخطوا الـ65 ، تكفلوا بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

ما أعنيه هو أن دور كبار السن لا يتلاشى؛ هو يتجدد فحسب. وذلك أصدق ما يكون في مجتمعاتنا الحميمية المتقاربة، حيث يتركون بصمتهم في تدبير الزيجات، أو التمسك بالعادات والتقاليد، إلخ، فهل يعقل أن نستمر في اعتبار كل محاولةٍ للنهوض بهم ومعهم صداماً لا داعٍ له؟

البر لا يكون بالطاعة العمياء، بل قد يكون أحياناً في أن تمنع أحدهم من تدمير الصورة الجميلة التي رسمها لنفسه.