المفكر اللبناني موسى وهبة.(أرشيف)
المفكر اللبناني موسى وهبة.(أرشيف)
الإثنين 31 يوليو 2017 / 19:46

موسى وهبة معلّماً

يحتاج تدريس الفلسفة إلى فيلسوف أو إلى شبه فيلسوف، وهذا ما كانه موسى وهبة الذي كانت مهمّته صناعة المفكرين

رحيل محمّد العبداله الذي كان في أخريات أيّامه لا يجد بسهولة ناشراً، كذلك رحيل أنسي الحاج الذي لم يُصدر منذ عقود ديوان شعر، أحدثا ضجّة تجاوزت المتوقّع. كأنّما كانت هذه مناسبة لإنعاش الشعر الذي بدا واضحاً أنّه ذاهب إلى أفول. في حين أنّ رحيل مفكّر من وزن موسى وهبة، لا يهزّ الصحافة أو ما بقي منها. لا يبدو بوضوح أنّ غياب مفكّر يترك محلّه صدى وفراغاً وقلقاً حقيقيا. الأرجح أنّ ليس للفكر بعد عندنا المؤسسة التي للأدب، ليس للفكر الحضور الذي للأدب، أعني بذلك الفكر البحت لا الفكر الذي يخدم السياسة والشيع السياسيّة والدينيّة و الطوائف على أنواعها. الفكر البحت لا يتّصل بمؤسسة حقيقيّة ولا يتداخل في نقاش قائم، إنّه أبداً في الهوامش أو في مكان أقلّويّ لا يُحدث أثرا. هكذا لا يبدو غياب واحد من أهمّ المفكّرين العرب حدثاً في ثقافتنا ولا يترك فقدانه فيها أيّ فجوة. ولا بدّ أنّ أستاذاً من معلّمي الفكر لا يجد موقعاً واضحاً في السجال الثقافي والفكري، فيما الساحة مفتوحة للدعاة والدعويين من كلّ صنف، للمثقّفين العضويّين الموقوفين على اتجّاه وحيد، لأرباع الثقافة أو أنصافها، وبالطبع يختلط هكذا الخطباء بالمبشّرين بالدعاة، فتغدو الثقافة تعبويّة خالصة.
كان موسى وهبة ابن جيل بل نموذجه، جيل ينشأ حول المدن خارجاً بذلك من بيئة، التعليم مدخلها إلى عالم جديد وإلى معيش آخر، بيئة في أساسها عائليّة طائفيّة عشائريّة. غير أنّ عسف القرابة والتقليد والضغط الطائفيّ يولّد لدى شبّانها وتيرة من الخروج والتمرّد، ومن الخصومة للميراث العائليّ والطائفيّ بخاصّة، والسياسيّ أيضا. وبالطبع كان هذا يتمّ بقدر من الالتزام والتنسّك العقائديّ والنزاهة الخلقيّة. الحزب يحلّ محلّ الجماعة المهجورة ويحلّ محلّ الأب المخلوع والجماعة المقصيّة، بل إنّ الحزب يتحّوّل إلى مجتمع آخر وعائلة ثانية. إنّه هكذا بديل اجتماعيّ, بديل مضادّ ونموذج آخر مختلف أو على قدر من الاختلاف للجماعة التي يرث أحياناً قيمها ومثالاتها ويدخل بهذه القيم والمثالات إلى بيته الحزبيّ الجديد. هكذا لم تفسد السياسة ولم يفسد الحزب ولم تفسد الحرب الأهلية المتطاولة موسى وهبة الذي خرج من الحزب الشيوعيّ، والذي وهبه شبابه، مثالاً أخلاقيّاً وعنواناً للنّزاهة الخاصّة ونموذجاً للصداقة والتعاطف الإنسانيّ بكل أشكاله: من الماركسيّة التي ناضل فيها ولها والّتي أكلت شبابه، إلى الفلسفة الّتي تخصّص فيها ونال فيها الدكتوراه من جامعات فرنسا. لم يكن الدكتور موسى ماركسيّاً فقط. كان فيلسوفاً، وأهمّ من ذلك، أستاذاً للفلسفة. يقول موسى وهبة في جوابه عبر تحقيق لمحمّد العبدالله دار حول الماركسيين السابقين، إنّ ما حمله إلى الماركسيّة فكرة عن سلميّتها. هكذا سيلمّ وهبة فيما بعد بهذه السلميّة، سيعرف الإعدامات وصنوف الإبادة والتهجير والمنفى. لم يغب هذا عنه بالتأكيد، لكنّ تصريحه لمحمّد عبدالله كان ذا دلالة، كان للفكر في نظره دور سلميّ. لم يكن العنف بالنسبة له يتّصل بالفكر. لم يقبل في البداية أن تكون الماركسيّة داعية عنف. فيما بعد ذلك سيتأكّد من أنّها هكذا. سيتركها وسيترك معها كلّ عقيدة. لم تعد العقائديّة تعنيه، صار الفكر بالنسبة له أوسع من العقيدة، الفكر حرّ والعقيدة قواعد وإلزامات، الفكر مراجعة دائمة والعقيدة وقوف على أمر واحد. سيغدو موسى وهبة ما أعطاه حياته، ما صار ديدنه وخطة حياته. لقد ترجم كثيراً، ترجم كانط ونيتشه، كتب كثيرا، اشتغل على لغة الترجمة، عمل ليؤسس فلسفة في العربيّة، ليطوّعها للفلسفة. كان هذا يتطلّب جهداً ومشقّة يعرف قدرهما من يباشر هذا العمل.

لكنّ الذي لا يقلّ أهميّة هو موسى وهبة المعلّم، موسى وهبة الشارح والمقدّم و المعلّق. يحتاج تدريس الفلسفة إلى فيلسوف أو إلى شبه فيلسوف، وهذا ما كانه موسى وهبة الذي كانت مهمّته صناعة المفكرين. كان فريداً في ذلك بين المعلّمين الذين كان معظمهم أبعد ما يكون عن الفلسفة وتاريخها ولغتها. لقد رحل المعلّم وها هي الفلسفة بلا صوت تحت هذا الغياب.