الكاتب التشيكي فرنتس كافكا.(أرشيف)
الكاتب التشيكي فرنتس كافكا.(أرشيف)
الأربعاء 2 أغسطس 2017 / 19:38

تداعيات حول كافكا

عقلية كافكا المتسائلة، لم تكن تستطيع، لا سيما بعد سن المراهقة، أن تتقبل كهنوت الطقوس اليهودية التقليدية كما يقبلها والده، وكأنَّ كافكا كان يقبلها فنياً فقط

رسائل ويوميات كافكا أشبه بمصنع كبير. هناك يصمم كافكا قطعَ غيار، لآلات تعذيب. في قصة كافكا الطويلة المرعبة أو روايته القصيرة، "في مستعمرة العقاب"، آلة تعذيب معقدة، مُعرَّضة لأعطال فنية دائمة، بسبب سوء الاستعمال، وربما لاستحالته. رسائل ويوميات كافكا أشبه أيضاً بتدريبات مضنية، لخروج أعمال مثل "أمريكا" و"المحاكمة" و"القلعة". كتب كافكا "رسالة إلى الوالد" 1919، لكنها لم تُسلَّم إلى أبيه، ويبدو أن كافكا نفسه كان العائق في عدم وصول الرسالة. الوالد العزيز: سألتني مرة، مؤخراً، لماذا أدَّعي أنني أخاف منك. ولم أعرف كالعادة، أن أجيبك بشيء، من طرفٍ بسبب الخوف نفسه الذي أستشعره أمامك، ومن طرفٍ لأن تعليل هذا الخوف يتطلب تفاصيل أكثر مما أستطيع أن أجمعه إلى حد ما في الكلام. وعندما أحاول هنا أن أجيبك كتابةً، فلن يكون الأمر إلا ناقصاً كل النقص، وذلك أن الخوف ونتائجه يُعيقني إزاءك في الكتابة أيضاً، ولأن حجم الموضوع يتجاوز ذاكرتي وعقلي كثيراً. الوالد هرمان كافكا كان جزَّاراً في بداية حياته، طموحاً بوحشية للصعود الطبقي. انتقل هرمان لتجارة الجملة في مجال الخردوات، وتزوج من جوليا لوفي التي كانت تعلوه طبقياً، ورُزِق بفرانز كافكا، أعقد وأرق الكائنات البشرية. عندما قرأ ألبرت أينشتاين رواية "المحاكمة" قال: لكن الإنسان ليس معقداً بتلك الصورة. هرمان كافكا جزَّار، فظ، تاجر جملة، وابنه نباتي، ينفر من الطعام. مَشاهِد الطعام قليلة في أدب كافكا، قياساً بجويس أو بروست أو هيمنجواي. وإذا وُجد الطعام، فهو يرتبط بمأساة البطل. بداية معرفة "ك"، بأنه مُدان في رواية "المحاكمة"، يُسلب في نفس الوقت، فطوره الرمزي الهزيل من جانب جهة التحقيق. وفي رواية "المسخ" تنغرس في ظهر البطل، غريغور سامسا، بعد تحوله إلى ما يشبه الحشرة، تفاحة، وكأنها خنجر. الوالد هرمان كافكا الضخم الشره، على مائدة الطعام، يتفتف بنثار الخبز.

ربما تتذكرها أنت أيضاً. ذات ليلة ظللت ألح في طلب الماء، وأنا على يقين أن هذا لم يكن بسبب العطش، بل يُحْتَمَل بأنني من جهةٍ كنت أريد أن أضايق الآخرين، ومن جهةٍ أخرى، كنت أريد أن أسلي نفسي. وبعد أن فشلت التهديدات العنيفة العديدة في أن تُحدث تأثيراً عليّ، انتزعتني من السرير، وحملتني إلى الشرفة، وتركتني هناك وحيداً فترة من الوقت، برداء نومي. هناك حادثة للمخرج ألفريد هيتشكوك، تشبه في قسوتها حادثة شرفة كافكا. بعث والد هيتشكوك، طفله الصغير ألفريد إلى مبنى الشرطة، بورقة مطبقة. القائم في مبنى الشرطة قرأ: برجاء احتجاز الطفل بعض الوقت. هيتشكوك نجا من التأثير النفسي لحادثة مبنى الشرطة، كافكا لم ينج من التأثير النفسي لحادثة الشرفة. هيتشكوك فنان مرح، سمين، يحب الطعام، وكان المطبخ أكبر مكان في بيته. كافكا عبوس، نحيف، جنائزي، عمقه لا قرار له. أجواء الإثارة البوليسية في رواية "المحاكمة" قد تستدعي اهتمام هيتشكوك، لكنه لن يغفر لكافكا جريمته الفنية، وهي أن الإثارة البوليسية زائفة، وسرعان ما تنقلب إلى غم ميتافيزيقي ثقيل الوطء. الإثارة البوليسية تستدعي جريمة. يقول هيتشكوك بتعال بارد: أين الجثة؟ ربما لو شاهَد كافكا أفلام هيتشكوك، لكان أكثر تسامحاً معها. إن كلاسيكية هيتشكوك المضْبوطة على الشَعْرة، يَصْعُب رفضها.

إن المنطقة الوحيدة من الشعور التي كان كافكا ووالده قادرين فيها على الاقتراب السطحي، كل منهما من الآخر، هي اليهودية، لكن حتى هنا أيضاً كانت عقلية كافكا تفترق عن عقلية والده. بالنسبة لهرمان الأب كانت اليهودية طريقة مقبولة في الحياة، إنها ديانته التي يقدم لها نوعاً من الولاء. أما عقلية كافكا المتسائلة، فلم تكن تستطيع، لا سيما بعد سن المراهقة، أن تتقبل كهنوت الطقوس اليهودية التقليدية كما يقبلها والده، وكأنَّ كافكا كان يقبلها فنياً فقط، وهذا يفسر كثيراً من القراءات التي أرجعتْ فكرة العقاب، وتجسيده المظلم عند كافكا إلى إيمانه بشكل ما. دافع كونديرا ضد قداسة كافكا الدينية إلا أن مغالاة كونديرا في هذا الدفاع، جعله يتخيل مناطق من الكوميديا في روايات كافكا، تشبه كوميديا سيرفانتس في "دون كيخوته". إن البحث عن الكوميديا في روايات ورسائل ويوميات كافكا، كالبحث عن إبرة في كومة قش. قد نجد لمسة كوميديا شاحبة هنا أو هناك في كتابات كافكا، وهي كوميديا قاتمة تقف في الحلق، لكن ليس لدرجة أن يترك كونديرا صفحات رواية "القلعة"، في أول قراءة لها، ويضحك بصوت مرتفع.