السبت 5 أغسطس 2017 / 20:02

قِصة العِلمانية مع الامام الفُسيفسائي

رُوي في أحلام المنام أن الامام أبو المعارف الفُسيفسائي صعد المنبر ذات يوم ليُحذر من فرقة "العِلمانيين" الذين أشاعوا الفساد والانحلال في حواضر الإسلام، ومما جاء في خطبته الشقشقية أن العِلمان لم يتركوا حِجاباً إلا وخلعوه، ولا عِرضاً إلا وهتكوه، ولا حُرمة من حرمات الله إلا وأرغموا الناس على الخوض فيها، ولا قربة من قربات الله إلا وعاقبوا الناس على فعلها، وبعد الفراغ من الخطبة تفرغ الامام لتأليف كتاب يشرح فيه العقيدة الصافية التي سُميت من بعده باسم العقيدة الفُسيفسائية، ولقد تناولها علماء الفرقة الناجية بالشرح والحواشي والاختصار، وكُتب لها القبول في مشارق الأرض قبل مغاربها، ولم ينقطع شرح هذه العقيدة والحُكم بها والعمل عليها، لكن ما فتئ أعداء الأمة يرمون المتن الفسيفسائي بالشبهات كما رمى مُختلقو الأحاديث النبوية القرآن بالغرانيق، فقُيض لهذه العقيدة من تلاميذ الإمام الفسيفسائي من يحفظها عن ظهر قلب ويرفض مجرد نقاش بند من بنودها، فبطلان عقائد العِلمانيون يُغني عن إبطالها، ونكارتها تُغني عن إنكارها، وسقوطها يغني عن إسقاطها وقُضي الأمر الذي فيه تستفيان!

يجعل كثير من الناس مصدر الاعتقاد معياراً لتقدير نصيب هذا الاعتقاد من الصدق أو الكذب، فلعن المصدر متأصل في طبيعة الإنسان منذ القدم، وقلما يولي الناس ثقتهم بآراء جاءت من مصدر يمقتونه، وقلّما يسخى الناس بطاقتهم الذهنية عندما تتوافر لديهم خيارات أقل كلفة، وتجد هذه الآلية الفكرية مرتعاً خصيباً في عالم الصيحات الفكرية السائدة، فمثلاً يكفي عند بعض الناس القول إن هذا هو قول الامام الفسيفسائي لكي يحظى الرأي بالإعجاب والإكبار، لذلك يلح "كارل بوبر" على أن مصدر النظرية العلمية لا يمت بصلة إلى وضعها العلمي، فالنظرية لا تكون علمية ما لم تكن قابلة للتكذيب سواء كان مصدرها المختبر أو الإلهام، يقع المرء في مغالطة الاحتكام إلى سلطة ما عندما يعتقد بصدق قضية أو فكرة لا سند لها إلا سلطة قائلها، ومثال ذلك القول بأن عمر الإنسان لا يتجاوز ال٧٠٠٠ عام بسبب سلطة الكتاب المقدس غير العلمية المخالفة لسلطة العلوم الطبيعية الحقيقية.

الصدمة أن العِلمانية ليست بالضرورة رديفاً للإلحاد والكفر والانحلال كما أخبرنا الامام الفسيفسائي، فهي تعني في معناها البسيط التمييز بين ما له علاقة بالدين كعلوم العقيدة والفقه والحديث، وبين ماله علاقة بشؤون الدنيا كالطب والهندسة والفلك، ولا يعني ذلك الانتقاص من اعتقادات الناس وشرائعها التي من المفترض أن يأخذها المُشرع بعين الاعتبار حين يضع قوانين للبلد، وظهر كذلك أن العلمانية أو المدنية الحديثة لا تدعو إلى حشر رجال الدين في زوايا ضيقة بقدر دعوتهم إلى وضعهم في مكانهم العلمي الطبيعي، فرجل الدين ليس عالماً في السياسة ولا مفتياً في الاقتصاد ولا شيخاً في الصناعة ولا خبيراً في الأسلحة ولا باحثاً في الطب إلا إذا كان متخصصاً في أحد هذه المجالات، فكونه يرتدي عمامة في العلوم الدينية لا تعطيه الحق بأن يضع جدولاً للسياح الأجانب، ولا أن يكتب روشته علاجية للحجاج والمسافرين، ولا أن يعلن الحرب على دولة أخرى، كثيرٌ من طُلاب النفوذ والجماهيرية يتعمدون تحريف الحديث النبوي الصحيح "أنتم أعلم بأمور دنياكم" إلى "أنا أعلم بأمور دنياكم"، لكي تتحول الدولة المدنية إلى دولة دينية لا يختلف حالها كثيراً عن حال دولة إيران الخميني وأفغانستان طالبان، ويكون معيار الكفاءة في هذه الدول الولاء المذهبي والتعصب الاعتقادي الذي هو كفيل برمي مشروع الدولة والحداثة إلى الدرك الأسفل من الحضارة والتمدن.

المُلفت أن أعداء العلمانية اللدودين لا يقضون إجازاتهم السياحية ولا يعالجون أمراضهم ولا يتعاطون البزنس إلا في دول علمانية أو غير دينية، وذلك مصداقاً لقول عالم الاجتماع د.علي الوردي أن العرب لو خيروهم بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدولة الدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية. حاولت في كتاب (الطب النبوي بين الفقيه والطبيب) أن أُخرج الطب من قبضة بعض رجال الدين فاتهمني البعض بالتُهم المعلبة الموروثة من قبل الامام الفسيفسائي بسبب محاولة تحرير هذا العلم الدنيوي من سطوتهم، وهكذا كلما حاول شخص تمييز الأمور الدنيوية عن الدينية فسيجد أتباع الامام الفسيفسائي له بالمرصاد يرمونه بالألفاظ التي ينفر منها المجتمع دون أن يتطرقوا إلى مؤاخذاتهم الحقيقية على الأفكار المطروحة.

هم لا يريدون التخلي عن قلاع نفوذهم التي تأبى إلا أن تسقط أمام المدنية التي تُطالب برد حقوق الإفتاء إلى أصحابها وسؤال أهل الذكر.... إن كانوا لا يعلمون.