غلاف رواية "البيت الأزرق".(أرشيف)
غلاف رواية "البيت الأزرق".(أرشيف)
الإثنين 7 أغسطس 2017 / 20:01

البيت الأزرق

السرد والأسلوب التحليليّ والتأمليّ بتفصيليّتهما والعرض الروائي، لا يحولان دون شاعريّة النصّ، بل لا يحولان دون أن يكون النصّ في روحه وجوهره أقرب إلى قصيدة

"البيت الأزرق" (منشورات ضفاف) رواية عبده وازن، ليست أولى رواياته ولا كتبه السرديّة، فقد سبقتها سلسلة كتب سيرية لا نستطيع فصلها عن السرد ولا عن الرواية بوجه عامّ. مع ذلك فإنّ "البيت الأزرق" جديدة علينا. جدّتها أنّها مكتوبة، بالدرجة الأولى، كرواية وبقصد روائي حرص معه المؤلّف على الالتزام بقواعد الرواية، بما فيها تلك الّتي لا يلتزم بها، على هذا النحو، الروائيوّن أنفسهم.

هناك، على سبيل المثل، المكان والزمان و الفضاء الروائي. بل هناك، في ناحية، الإمعان في التفصيل وإدخال قصّة على قصّة والتبسّط في العرض، وإن فاتنا في أحيان الحوار واستعيض عنه حينذاك برزمة إخباريّة. إلاّ أنّ السرد والأسلوب التحليليّ والتأمليّ بتفصيليّتهما والعرض الروائي، لا يحولان دون شاعريّة النصّ، بل لا يحولان دون أن يكون النصّ في روحه وجوهره أقرب إلى قصيدة. بل إنّ فيه مواضع تكاد أن تكون قصائد خالصة، كالموضع الّذي يتكلّم عن الصمت:"كأنّ الصمت يتكلّم ليقول ما لا يقال، إنّه الكلام الأبكم للروح"، أو:"هل من صمت تامّ". ثمّ إنّ النصّ الّذي ليس فقيراً بالحوادث يدور من ناحية أخرى، حول أقانيم وخلفيّات ماثلة. هناك البكم الإرادي الّذي شاءه بول، بطل الرواية، لنفسه واستطاع أن يخدع به الآخرين بمن فيهم الأطبّاء. إنّه بكم بول لكنّه يتحوّل إلى أحد أوثان الرواية، ثمّ هناك المشي الّذي أخذ بول في النهايات والّذي هو الآخر لا يقلّ صنميّة عن البكم. بل هو وثن سينمائي في الأساس أو هو وثن أوديسيّ إذا عدنا إلى الملحمة، وبول الأبكم المشّاء شخصيّة ملحميّة. بل هو، من ناحية أخرى شخصّية شبه خرافيّة، والرواية الّتي تقوم على تفاصيل تبالغ في واقعيتها أحياناً كمثل نزوعها إلى تقديم شخصيّات ووقائع مثليّة تضمر رغم ذلك اتجّاهاً ملحميّاً يغطّي على واقعيّتها.

تلك مفارقة في الرواية القائمة أساساً على مفارقات. إنّها على لسان راويها الروائي تصادفه وهو عالق في خاتمة رواية له، ليس بالصدفة أنّها تتعلّق بانتحار البطلة، في هذه الحال يقع بين يديه مخطوط لسجين متوّفٍ هو بول الّذي لانلبث أن نعلم أنّه مثقّف تربّى عند خالته وارتبط بغادة الّتي لا نعلم لأيّ سبب انفصل عنها. بعد ذلك يصاب ببكم يحيّر الأطبّاء ويتحوّل إلى مشّاء يمضي أوقاته هائماً في البراري. إلاّ أنّنا نفهم أنّ بكمه طوعيّ او اختياريّ. إنّه إتصّال بالمطلق: "كنت أستمع إلى اللاصوت إلى العدم"، أو: "حقّق، هذا الخرس حلمي في الإنفصال عن العالم". أمّا المشي فيقول بول: "أمشي لأتحرّر من فكرة الهويّة نفسها، من صفتي شخصاً ذا اسم وتاريخ، أمشي لأكون لا أحداً". لكنّ اللاأحد يستحيل "قريناً" أو الآخر القرين كما أنّ الموت صوماً الّذي اختاره بول سيتيح له "العودة إلى الأمّ، إلى اللّه، إلى المطلق، إلى الأزل الّذي منه أتيت، إلى الأبد".

نحن هكذا أمام مفارقة الرواية الكبرى التي تبدو بارزة حين نرى بول المثقف أو القارئ الّذي لايحسن الكتابة ويحتاج إلى منقّح لروايته، والرواية الّتي لا تنسى الواقع وتقوله أحياناً بجرأة إستثنائية، نراهما تقريباً يتوقان إلى أن يكونا خارج الحياة، إلى أن يكونا عدماً أو أن يتّحدا بالمطلق. إنّهما رهن مغامرة أو سؤال دينيّ، سؤال دينيّ يبقى كذلك رغم عبثيّة أوعدميّة وربما إلحاد الراوي الّذي يقرّر أنّه وجه آخر لبول. إنّه تصوّف قائم بنفسه وقد يصحّ أن يقال هنا أنّه لاهوت القلق كما كان يقال في فلسفة هيدغر أنّها لاهوت الكينونة.

من هو بول ومن هو الراوي الّذي يحيا عنه من بعده؟ إنّهما متماثلان لكنّهما ليسا واحداً. بول الهائم قد يكون يوحنّا المعمدان وليس في وسع الراوي إلّا أن يكون تابعاً وتلميذاً. بول يموت صبراً بالجوع كما قضى المسيح على الصليب، بول يسعى إلى أن يكون لا أحداً. إنّها النّرفانا بعد أن يخلو المرء من إنسانيّته. قد يكون بول ومعه الراوي كلّ هؤلاء ومعهم أيضاً أشخاص كثر بينهم رامبو ونيتشه. إنّه التصوّف الثقافي ولنقل الدين الثقافي.