الغروب.(أرشيف)
الغروب.(أرشيف)
الأربعاء 9 أغسطس 2017 / 20:04

عودة الروح

صنع الرجل الستيني، عُشاً صغيراً بين يديه، تقفيصة أصابع مُحْكَمَة، ومن أعلى العُش، هبط بطرف السيجارة، وهي في فمه

كان الرجل الستيني ينتظرُ نصف نائم على كرسي البحر القماشي، بتي شيرت مطبوع عليه صورة الكاتب المسرحي والشاعر برتولد بريخت، بسيجاره الشهير. أخرج في شبابه، لمسرح الجامعة، "أوبرا الثلاثة قروش"، و"الأم شجاعة". كان الرجل الستيني ينتظر، بنفاد صبر، بتعصُّبٍ، بحماسٍ، بضيق أفق مُشجِّع كرة قدم إنجليزي، عزلَ الروح في مكان ناءٍ، ينفتح على مدًى، وهناك، وبحُجَّة النقاء، تتم تصفيتها نهائياً، ودون رحمة، مما يُنسب إليها.

 صرختْ زوجة ابنه بتزامن مع فضاء أمنيته. شعر الرجل الستيني بشيء من الاتهام. ابتسم وهو يُشير بيده إشارةً عمياء، وكأنه يقول لها: أنا كنتُ شاهداً فقط على تصفية الروح، لم أشترك في الجريمة، مجرد مُشجِّعٍ، مجرد مُراقبٍ من بعيد. هزمتْ الزوجة ابنه في لعبة الطاولة، والصرخة كانت إعلاناً للفوز. رجع البصر فجأةً كما في الأفلام الميلودرامية، إلى إشارة يده العمياء، واتجه إصبعه، وهو يضحك الآن، إلى الابن. أمسكتْ نادية أصابع حماها إشهاراً، ودعماً لهزيمة أحمد الذي قام من على كرسيه بلا مبالاة، فاصطدمتْ رأسه بحافة الشمسية. ضحك الرجل الستيني، وضحكتْ نادية.

قال أحمد إنه سيذهب للشاليه، لطلب أكلة سمك بوري مشوي. اقترحتْ نادية على والد زوجها تمشيةً على الشاطئ. ربطتْ نادية على خصرها إشارباً حريرياً عليه ورود الأمازون البريَّة، وتعلقتْ بذراع الرجل الستيني. كان قرص الشمس البرتقالي معصوباً بقطن السحب. وكانت فضيحة الدماء سيفاً مراقاً على صفحة الماء. أحسَّتْ نادية بلذة الرمال المُنعَّمَة المصقولة بجلخ الأمواج تحت قدميها العاريتين، وللحظة شعرتْ أنها تمشي على جلدٍ إسفنجي، يمتص بطون أصابعها. بطرف عينه رأى حماها، النمش المفروش على كتفيها، واسعاً بعد أن قطع رحلته الضيقة من برزخ أنفها ووجنتيها ورقبتها، إلى محيط الصدر والظهر. تأخذ نادية اللون البرونزي تدريجياً، وعلى وقت طويل، وبمساعدة فائقة من كريمات البشرة، وفي النهاية تكتسبُ بشرتها لوناً برونزياً يميل كثيراً إلى الاحمرار، ولهذا تحتاج الزوجة إلى دعم معنوي متواصل من زوجها، ووالد زوجها، بأن البشرة الشقراء الضعيفة بطبيعتها لضوء الشمس، عندما تكتسبُ لوناً برونزياً تكون أكثر جاذبية من البشرة الخمرية المُهيأة بطبيعتها، وبدون عناية كبيرة، لاكتساب اللون البرونزي.

أخرج الرجل الستيني، علبة الروثمان العريض، وأخذ منها واحدة، بحزام ذهبي على الفلتر. وكان إشعالها معجزة. عود الثقاب الضعيف، يُحارب الهواء. حرب العناصر. أسلحة أرسطو الطبيعية، ماء، هواء، نار، تراب رمال تحت قدمي زوجة ابنه. صنع الرجل الستيني، عُشاً صغيراً بين يديه، تقفيصة أصابع مُحْكَمَة، ومن أعلى العُش، هبط بطرف السيجارة، وهي في فمه. قالتْ نادية بأداء مسرحي إعجاباً باشتعال السيجارة: أنا الآن أنظر إليك نظرة العنصر الخامس، العنصر الغامض، الغير قابل للفساد. ابتسم حماها وقال: بتحبي الفيلم؟ ردت نادية: موت، بروس ويليس فارس أحلامي.

تمنَّى الرجل الستيني بتطلبٍ وشغفٍ، أن لا ينسى ابنه أحمد تأكيد طلب الأسماك الكبيرة من البوري المشوي حتى يستمتع الوالد بطعم براويز الدهون المتراكمة على جوانب الأسماك. وتمنَّى أيضاً أن تكون إضافته في صوغ العود الأبدي الذي يعود لنيتشه ودولوز، إضافةً تحفظ له ماء فكر وجهه. قال في نفسه بخيبة أمل: ومع أنها مجزرة حقيقية للروح إلا أنها عائدة لا محالة، وهي ليستْ عودة شيء بعينه، لمكانٍ أو زمانٍ بعينه، بل إن العودة نفسها هي التي تعود، وإن كانت لا تنقطع عن شيء، ولا تهجر شيئاً، ولهذا لا يلحظ أحد عودتها، ولا يستطيع أحد إثبات النقيض، أي إثبات أنها هي نفسها مَنْ عادتْ في المرة السابقة، وقد يكون عدم القدرة على إثباتها، لا يعود إلى تكرارها، ولا إلى العجز عن خفض هذا التكرار إلى رقم نهائي، بدلاً من رقمه اللا نهائي، بل يعود فقط إلى تجددها الدائم، أي أنها ليستْ هي نفسها مَنْ عادتْ في المرة السابقة. أربكه أن يستخدم كلمة العودة بإفراط. مَنْ يعود على مَنْ. أو كما قال بلوم بطل جويس: شِمَال اليمين فين؟ أو يمين الشِمَال فين؟ هزَّتْ نادية يدها، وكأنَّ زهري الطاولة بين أصابعها، ثم رمتْ أمامها في الهواء، الزهرين الوهميين. وقالتْ وهي تعيد مشهد الفوز: خمسة أربعة من آخر الدنيا، خشب يا باشا. نظر والد زوجها إليها ضاحكاً. قال مستنكراً: قوليها صح، خمسة وأربعين، وكانوا بيحطوا لها زمان كلمة كمالة، خمسة وأربعين عراقي.