الشاعر الفلسطيني محمود درويش.(أرشيف)
الشاعر الفلسطيني محمود درويش.(أرشيف)
الخميس 10 أغسطس 2017 / 19:56

لو استثنينا الإسفلت وفضولنا

كان يجلس صامتاً ومشدوداً وهو يمسك بعلاقة الباب، ثم يبدأ بالاسترخاء ببطء كلما اقتربنا من حي "الطيرة" وبدأنا الهبوط في شارع "سمير قصير" حيث الإضاءة مثبتة على صخرة وشجرة زيتون في جزيرة تتوسط الشارع النظيف

في استعادة محمود درويش أجد نفسي بعيداً عن جدل الشعر، من السهل أن تتذكر شاعراً.

ولكن الأمر يأخذ شكل المغامرة حين تبدأ في استدراج تلك الممرات الصغيرة التي تتخفى في الظلال، حيث سيترجل الشاعر ويبدأ بالسير على قدميه، دون قصائد ودون منبر ودون حكمة مضافة لطالما ضجر منها.

فكرة التذكر البسيط، حيث لا حكمة مرتجاة من السرد أو معرفة منشودة من الحدث، التذكر كغاية مستقلة، والتذكر كحاجة.

ها هو يتقدم بنظارتين سميكتين وصوت شخصي ومعطف كحلي.

الطريق الى البيت

لم يكن محمود درويش يثق بقيادتي للسيارة، وهي سيارة فرنسية بيضاء صغيرة كانت تثير حزنه، كما كان يردد، المرات القليلة التي استسلم فيها للجلوس الى جانبي في المقعد الأمامي حدثت في غياب "نهاد"، سائقه ومدبر شؤونه، وهو غياب نادر وغالباً ما يحدث في ساعات متأخرة من الليل.

يجلس محمود إلى جانبي متوتراً، فيما السيارة البيضاء المحزنة تهبط حي "الماصيون" في رام الله نحو "البلدة القديمة"، "المحكمة العثمانية"، "المحطب" ثم "شارع ابراهيم".

كان يجلس صامتاً ومشدوداً وهو يمسك بعلاقة الباب، ثم يبدأ بالاسترخاء ببطء كلما اقتربنا من حي "الطيرة" وبدأنا الهبوط في شارع "سمير قصير" حيث الإضاءة مثبتة على صخرة وشجرة زيتون في جزيرة تتوسط الشارع النظيف، هناك كتب اسم سمير، الذي كان يحبه، وعلى مسافة مئات الأمتار بعد منعطف منحدر أخير سنصل البناية التي يسكن في أحد شققها منذ وصل الى رام الله، بناية تطل على الساحل الفلسطيني في شارع هادئ يبدو وكأنه نبع بهدوئه على غفلة من الشوارع الضاجة الملاصقة.

على مدخل البناية وفي الشارع تنتشر أشجار معمرة، تركها المقاول فيما يشبه رحمة مفاجئة، هناك يفتح باب السيارة، يضع قدمه على الأرض وينفتح في حديث تأجل طوال الطريق.

يترك ملاحظة سريعة ضاحكة ويتجه نحو مدخل البناية الجانبي قاطعاً الرصيف المبلط والأسيجة المتهالكة حول الأشجار، لا يلتفت قبل أن يدلف في المدخل بمعطفه الكحلي وياقته المرفوعة.

الطريق الى "عين عريك"

الطريق الى قرية "عين عريك" غرب رام الله عبر "دوار الفواكه" في "بيتونيا" كانت تمنحه شيئاً من السعادة، طريق ريفية تنحدر بقوة بين وديان ومنحدرات تغطيها أشجار زيتون معمرة وسرو وصنوبر وتين وزيتون أيضاً.

ينحدر الطريق الضيق في منعطفات مفاجئة يقع في نهاية أحدها بيت ريفي بعرائش ومدخل بسيط، يمتد من الاسفلت الضيق الخشن المبيض بسبب الزمن ممر أشبه بعتبة طويلة مرتجلة، العتبة تفضي الى بوابة البيت، هذا هو مطعم "الفلاحة"، مطعمه المفضل الذي يكاد يقتصر جدوله على وجبة شعبية فلسطينية وحيدة هي "المسخّن"، هناك كان يدعو ضيوفه غالباً، حيث ينتظره دائماً ما يشبه احتفالاً عائلياً حميماً في ذلك البيت.

ليس المكان فقط هو الاستثنائي هنا، الطريق أيضاً، يقول وهو يحدق في الانحدار العميق المتتابع بين الجبلين والتفاف المنعطف الحاد، بينما "الفلاحة" بعرائشه خلفنا.

هذا مشهد قديم ومتواصل، لو استثنيت الإسفلت وفضولنا. يكمل جملته التي بدا وكأنني ذريعتها في هذا الفضاء.