أحد الأضرحة في مصر.(أرشيف)
أحد الأضرحة في مصر.(أرشيف)
الخميس 10 أغسطس 2017 / 20:04

رأس الحمار.. فى مقام الشيخ أبو سريع

ليس في مصر، إلا فيما ندر، قرية لا يوجد بها ضريح لأحد أولياء الله الصالحين، يتبارك به أهل القرية، ويؤمنون بقدرته على أن يشفع لهم لكي تتحقق مطالبهم، لأنه من أصحاب الدعوة المستجابة، وببركة دعائه

بالأناشيد والمدائح والطبول والمزامير، شيع مريدو الشيخ أحمد علي مرسي في الأسبوع الماضي جنازته. خرجت الجنازة من منزله بإحدى القرى التابعة لمدينة كفر الزيات، التي كانت - حتى نصف قرن مضى - واحدة من أشهر المدن الصناعية فى مصر.

وما كاد الموكب يصل إلى مشارف منطقة المقابر، حتى رفض النعش - كما قال الذين يحملونه من المريدين - أن يسير بهم، وأجبرهم على أن يعودوا به، ليطوف بهم عدداً من شوارع القرية، قبل أن يستقر به في قطعة أرض مجاورة للمسجد الذي أنشأه الشيخ، وأقام به خلوة له، كان يعتكف فيها للعبادة، وقرروا أن يتخذوا منها مقاماً مؤقتاً للشيخ، إلى أن يتخذوا الإجراءات القانونية لإقامة ضريح له فيها.. وهو مطلب أثار اعتراض بقية أهالي القرية، الذين يأخذون بالاتجاه الغالب في الفقه الإسلامي، الذى لا يجيز إقامة الأضرحة داخل المساجد، أو التوسل بأولياء الله الصالحين، بينما اعتذرت وزارة الأوقاف - وهي الجهة التي تشرف على المساجد والأضرحة - بعدم الاختصاص قائلة إن مهمتها تقتصر على رعاية المساجد والأضرحة القديمة المسجلة لدى المجلس الأعلى للطرق الصوفية ولا توجد فى القانون نصوص تنظم إضافة أسماء أخرى لأولياء الله الصالحين، أو تمنح الوزارة - أو غيرها - سلطة هذه الإضافة.

وليس في مصر، إلا فيما ندر، قرية لا يوجد بها ضريح لأحد أولياء الله الصالحين، يتبارك به أهل القرية، ويؤمنون بقدرته على أن يشفع لهم لكي تتحقق مطالبهم، لأنه من أصحاب الدعوة المستجابة، وببركة دعائه، تحصل المرأة العاقر على ذرية، وتنجب التي تقتصر ذريتها على الإناث، ذكوراً، ويسترد الذين اهتضم الآخرون حقوقهم، على ما ضاع من هذه الحقوق، وهو - قادر بهذه البركة - على هداية الابن العاصي، وإعادة الزوج المهاجر إلى بيته، وشفاء المرضى بأمراض مستعصية، عجز الأطباء عن علاجها، وتتسع بركة دعائه لتشمل إفساح باب الرزق، ويكفي أن يكنس المظلوم مقامه، ويلقي بالكناسة في الطريق، وهو يدعو على ظالمه، حتى يتوب الظالم عن ظلمه، وهي مطالب يتعهد مقدمها، لصاحب المقام عادة، بأن يقدم له نذراً إذا تحققت، يتراوح عند الفقراء بين إضاءة المقام بعدد من الشموع، وبين توزيع الطعام على الفقراء والمساكين الذين يحيطون بمقامه، ويصل هذا النذر عند الأغنياء إلى حد التبرع بمبالغ مالية كبيرة لصندوق النذور بالمقام، أو ذبح جاموسة أو ثور، وتوزيع لحومهما على هؤلاء الفقراء!

وفيما عدا المشهورون من الصحابة وآل البيت والخلفاء والعلماء وكبار المتصوفة، الذين أقيمت مبان ضخمة لأضرحتهم، واحتفظ لنا المؤرخون الذين عاصروهم، بأحسابهم وأنسابهم وسيرهم العطرة، فإن التاريخ لا يحتفظ لنا بسير معظم أولياء الله الصالحين، الذين أقيم لكل منهم ضريح في كثير من القرى المصرية، وصاغ لهم أهل القرية تاريخاً شفهياً فولكلورياً، ظلوا يتواترونه ويضيفون إليه، جيلاً بعد جيل حتى اختلطت الحقيقة بالخيال والوقائع بالأساطير، وجاء الزمن الذي لم يعد أحد من أهلها، يذكر شيئا عن تاريخ صاحب المقام، سوى حكم قاطع بأنه كان رجلاً صالحاً، بدليل أن جنازته ما كادت تخرج من منزله، حتى أخذ النعش يدفع الذين يحملونه، بعيداً عن الطريق التقليدي لمقابر القرية، ويطوف - على غير إرادتهم - شوارع القرية، إلى أن يستقر عند مكان بعينه، فيقرر أهل القرية دفنه فيه، ويقيمون له ضريحاً مستقلاً، أو يبنون حول هذا الضريح مسجداً.. فيتقاطر الناس على زيارته، يتوسلون إليه أن يشفع لهم في رفع المظالم التي تقع عليهم، وفى تحقيق المطالب البسيطة التى يحلمون بها في دنياهم، وينذرون لله - إذ أسفر دعاءه المستجاب عن تحقيق هذه الأحلام المتواضعة - أن يذبحوا على بابه جاموسة أو بقرة يوزعون لحومها على الفقراء والمساكين.

وما لبث الفضول، أن قاد الباحثين للشك فى انتساب بعض أصحاب هذه المقامات، لأولياء الله الصالحين، بسبب تضارب الروايات، وعدم معقولية بعضها، وعدم وجود دلائل موثقة على صحة ما ينسب إليهم من معجزات، فضلاً عن شيوع ظاهرة استغلال بعض ذوي الضمائر الميتة للتدين الفطري لدى الناس، للاحتيال عليهم بادعاء القداسة، مما دفع هؤلاء الباحثين إلى نقل تراجم أصحاب هذه المقامات من صفحات علم التاريخ، إلى صفحات علم الفولكلور، وأحياناً إلى صفحات علم الجريمة.

وكان من بين من قادهم الفضول إلى محاولة البحث عن صحة التاريخ الفولكلوري لبعض أصحاب هذه المقامات، الكاتب الراحل يحيى حقي الذى عمل لفترة في إحدى مدن الصعيد، لفت نظره خلالها أن أكبر مساجدها يسمى بـ"مسجد الست ظريفة" فأخذ يبحث عن سيرة صاحبة المقام، وبعد بحث مكثف عرف أنها أمضت عمرها في تجارة الهوى، ثم استتابت ربها فتاب عليها، وأنفقت كل مالها فى طاعته ورضوانه فما كادت ترحل عن الدنيا، حتى أقام لها المريدون مسجداً وأنشأوا في داخله ضريحاً لها.

وكانت مثل هذه الشكوك، وراء المثل الشعبي الشهير "إحنا دافنينه سوا"، وهو يستخدم حين يتنازع لصان حول نصيب كل منهما في ما سرقاه، ويستند إلى قصة تقول إن لصين سرقا حماراً من سوق المدينة، فمات منهما وهما في الطريق إلى قريتهما، فدفناه على جانب من الطريق، وأقاما حوله ستاراً وأشاعا أنه قبر شيخ صالح، وبالغا فى ذكر كراماته، فأخذ الناس يتقاطرون على مدفنه الذي تحول إلى مقام، وبينما هما يتقاسمان حصيلة النذور التي جمعاها، طالب أحدهما بزيادة نصيبه بدعوى أنه كان يرعى الشيخ الراحل، فقال له الآخر: ما تنساش إن احنا دافنينه سوا!

تلك واقعة، أدهشني أنها تكررت بالنص في الأسبوع نفسه، الذي زعم فيه مريدو الشيخ أحمد مرسي بأن نعشه قد طار بهم، إذ وصل الخلاف بين اثنين من عشائر الظهير الصحراوي لمدينة السويس، إلى ذروته، حول أيهما أحق بشرف وجود مقام الشيخ أبو سريع على أرضه، لينتهى باتفاقهم على نقل الضريح إلى أرض تتوسط نجعيهما، مع احتفاظ كل منهما بالحق في الحصول على نصف قيمة النذور المالية التي تتجمع فى صندوق المقام والتي تبلغ مليون جنيه في السنة، وبعد أن انتهيا من بناء الضريح البديل، شرعا في نقل عظام الشيخ أبو سريع إلى المقام الجديد، وكانت المفاجأة، أنهما لم يجدا عظام إنسان، بل وجدا جمجمة وعظام حمار!