محمود درويش.(أرشيف)
محمود درويش.(أرشيف)
الأحد 13 أغسطس 2017 / 20:05

القصيدة، كما سيرة صاحبها، خضراء..!!

في تضافر الإثنين، أي جدوى الشعر، ومركزية فلسطين، ما يفسّر شجاعته الاستثنائية في لحظة نادرة وبالغة الخصوصية عندما أدرك إن قطار العمر قد اقترب من محطته الأخيرة

في مثل هذه الأيام، قبل تسع سنوات، رحل محمود درويش. ومن المدهش، حقاً، أن يكون كل هذا العدد من السنوات قد مرّ، فالمسافة الزمنية ليست بالقصيرة. ومع ذلك، ينتابنا إحساس، دائم، وكأن الغياب الفيزيائي كان العرضي في سيرة، شخصية وإبداعية، يمتاز الثابت فيها بحياة مستقلة لم ولن تكف عن الحضور والتجلي.

وإذا كان ثمة ما يستدعي التفكير في معنى ومبنى ما ندعوه بالثابت فأعتقد أنه لا ينبغي أن يحيد عن أمرين: قناعة مطلقة، تكاد تستعصي على الفهم، أحياناً، بجدوى الشعر، ومركزية فلسطين في الحياة الشخصية، واليومية، والهم الإبداعي. ومن حسن الحظ أن الحياة كانت كريمة معي فمنحتني إمكانية الإطلال، عن قرب، على عالم محمود درويش، وتأمل التجليات المحتملة لهذين الأمرين على مدار سنوات طويلة.

ولستُ، هنا، بصدد سرد ما لا يحصى من تلك التجليات، بل تأكيد حقيقة أن في تضافر الاثنين، أي جدوى الشعر، ومركزية فلسطين، ما يفسّر شجاعته الاستثنائية في لحظة نادرة وبالغة الخصوصية عندما أدرك إن قطار العمر قد اقترب من محطته الأخيرة.

ولا أريد التدليل على أمر كهذا بسرد أحداث، ومفارقات، شخصية تماماً، يمكن أن تضيف جديداً إلى سيرته، بل مجرّد القول إن في كل ما كتب عشية الرحيل ما يمكِّن الإنسان من بناء مرافعة كاملة مفادها أن السمة الرئيسة لنصوص ما قبل النهاية بقليل هي نشيد الحب، ومديح الحياة، وقد حضر كلاهما بكثافة صريحة وفصيحة في "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي" المجموعة التي ضمّت قصائده الأخيرة، ونُشرت بعد رحيله.

يستمد التذكير بنصوص ما قبل النهاية بقليل، ومحاولة العثور فيها على سمة رئيسة، مبرره من تحليل إدوارد سعيد لما أسماه الأسلوب الأخير. والمفارقة أن إدوارد فعل ذلك في محطة أخيرة من حياته أيضاً. الخلاصة، في هذا الشأن، أن الإحساس بالنهاية يترك بصمة واضحة على نصوص الكتّاب والشعراء والفنانين، وقد يتجلى، في حالات كثيرة، في غضب مكبوت، أو سوداوية متأخرة، ناهيك عن الرثاء الذاتي، وشكوى الحياة. قدّم إدوارد نماذج تطبيقية تنتمي إلى الأدب الغربي، والواقع أن دراسة النصوص المتأخرة لشعراء وكتّاب عرب، عشيّة الرحيل، قد تُغني دراسة هذا الجانب في الأدب العربي.

ومرافعتي الرئيسة، في هذا الشأن، أن القناعة المُطلقة بجدوى الشعر، ومركزية فلسطين، هما ما فرض على محمود درويش، وبفعل قاهر من أفعال الإرادة، هندسة المشهد الأخير، كما تجلى في مجموعته الأخيرة، بهذا القدر من الكرم والنبل الإنسانيين، والترفّع عن الرثاء الذاتي، أو شكوى الحياة.

كان يدرك أنه أصبح رمزاً لشعبه بمعنى من المعاني. لم يكن هذا الإدراك مريحاً، في كل الأحوال، لأن من أصبح رمزاً لشعبه يصبح رهينته، أيضاً، وفي هذا ما يُخضعه لشرط يأتي من خارج الشعر لا من داخله. الحقيقة التي أدركها في وقت مبكّر جداً، ولم يكن قد تجاوز الثلاثين من العمر، عندما كتب "أنقذونا من هذا الحب القاسي".

ومع ذلك، لم يكن ليتمكن من تجاهل الضريبة الأخلاقية لكينونة الرمز. فمَنْ رفعه شعبه إلى مكان ومكانة الرمز، بصرف النظر عمّا في أمر كهذا من ضرائب إبداعية وإنسانية باهظة، لا يملك الحق في خذلانه. لذا، لا يليق به النزول في المحطة الأخيرة باكياً على أطلال من نوع ما، بل ينبغي، وبقدر ما تبقى في عروقه من نبض، وبفعل قاهر من أفعال الإرادة، أن يُغادر منتصب القامة، بكامل أناقته، ولياقته. وهذا، بقدر ما يتعلّق الأمر بالشاعر، شخصاً ونصاً، يليق بفلسطين:

"يا أرض خضراء/تفاحة تتموّج في الضوء والماء/خضراء/ليلكِ أخضر/فجرك أخضر/فلتزرعيني برفقٍ/برفق يد الأم/ في حفنة من هواء/أنا بذرة من بذوركِ خضراء".

ولعل في هذا، أيضاً، ما يفسّر كيف ولماذا لا تزال القصيدة، كما سيرة صاحبها، خضراء