الأحد 13 أغسطس 2017 / 20:14

رحمة الله عليك يا أبا عدنان

هناك أناس تعلم من نفسك شدة حبها لهم، لقربهم، فلا تستغرب منها الشعور بلوعة الغياب عندما يختطفهم الشبح الرمادي. حزنك عليهم مبرر ولا غرابة فيه فهم أقرباؤك وأهلك وأصدقاؤك المقربون. الغريب هو ما يحدث عندما يموت شخص تظنه بعيداً عنك، تظنه نائياً بما فيه الكفاية لتشعر تجاهه بالبلادة، فتكتشف أنه كان يعيش في داخل أعماقك. عندما تكتشف أنك تُحب هذا النائي أكثر مما كنت تتصور. الخبر السريع عن مرض فنان الخليج عبد الحسين عبد الرضا، وانتقاله للعلاج في لندن، أربك أهل الخليج ووترهم، ثم جاء خبر وفاته كالصاعقة لأنهم لا يريدونه أن يموت ولم يخطر ببالهم أنه يمكن أن يموت. موت عبد الحسين كان من هذا النوع، نوع المحبة التي لا "تتكشف" إلا بعد الرحيل. ليست الكويت وحدها الحزينة على رحيل هذا الفنان العظيم بل جل الخليجيين، لا يُستثنى منهم إلا أسرى الكراهية الطائفية، فك الله أسرهم.

هل عبد الحسين مؤثر إلى هذه الدرجة؟ هل للفنان قيمة أكبر مما نتصور؟ هل غاب عن الناس الدور المحوري الذي يلعبه الفن؟ دعونا لا نسطح المسألة كما هي عادة حواراتنا الممتدة. في المجتمعات المتخلفة يُنظر إلى الفن على أنه ترف وإلى الفنانين على أنهم مجموعة من السفهاء الذين لم يجدوا وظيفة نافعة ولم يشغلوا وقتهم بأمر ذي بال. بينما الفن في حقيقة الأمر هو شكل نوعي من أشكال الوعي الاجتماعي والنشاط الإنساني. هذا الشكل النوعي يعكس الواقع ويحاكيه ويظهره في صور وقوالب فنية. بالنسبة للفلاسفة المثاليين، الفن من نتاج "الروح المطلق" وتعبير عنه، وهو إلهام إلهي، والفن تصوير للانفعالات اللاشعورية للفنان. الإبداع الفني هو ما يشكل عواطف واحتياجات الإنسان الجمالية، فليست كل احتياجات الإنسان دينية. هذه الأهمية البالغة للفن هي ما جعل الشعوب نفسها تلعب دوراً كبيراً في تطور الفن عبر التاريخ منذ أن بدأ التدوين لتاريخ الفن منذ 40 ألف سنة قبل الميلاد. الفن شكل من أشكال الوعي الاجتماعي، لكن له ما يميزه عن أشكال الوعي الأخرى، من أهمها أن علاقة الإنسان الجمالية بالواقع هي الموضوع المحدد للفن، إنه التصوير الفني للعالم، ولهذا السبب يكون الإنسان هو المركز في كل عمل فني، لأنه حامل العلاقات الجمالية. موضوع الفن هو الحياة في كل صورها، وقد قدم لنا عبد الحسين عبد الرضا هذا كله. هذه المقدمة المختصرة في تصوري كافية لإيضاح مكانة الفنان المحترم في وجدان الناس.

أمر آخر زاد من "تكشف" محبتنا لعبد الحسين عبد الرضا، عندما نعق ناعق أو إن شئت نهق ناهق بكلام مستهجن، يحاول أن يصدّ بذراعيه جموع المحبين الغفيرة من التعبير عن حزنها الشديد لرحيل الفنان العظيم عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي جعلتنا نشعر أن كل سكان المعمورة معنا في نفس الغرفة. كانت دعواه، أن عبد الحسين رافضي وبالتالي هو كافر ولا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له. رأيت شخصين فقط أيدا هذا الناعق، وأحدهما زاد بأن ترحمنا على أبي عدنان، يدل على جهلنا العظيم وغفلتنا العميقة!

كان من المفيد أن يتحدث هذا الناعق، لأن ردود الأفعال وغضب أهل الخليج منه، كشف عن أغوار أخرى لتلك المحبة، وأنها محبة تغضب لمن تحب. ومن فوائد تلك "النعقة" أننا عرفنا أن من يتكلمون بهذه اللغة أصبحوا قلة قليلة في مجتمعنا، مجموعة لا تقرأ وإذا قرأت لا تنقد ما تقرأ، بل إن الأكثرية من علماء الدين استهجنوا هذه اللغة، وهذا يبشر بالخير، نحن نسير على الطريق الصحيح.

عندما دعا النبي عليه الصلاة والسلام على أناس في صلاة الفجر، نزلت من القرآن آيات "ليس لك من الأمر شيء"، فإذا كان الرجل الذي لم يمش على وجه الكوكب أعظم منه، ليس له من الأمر شيء، ويأتيه عتاب الله بهذه الصورة، فمن نكون أنا وأنت حتى نقرر من سيذهب إلى الجنة ومن سيذهب إلى النار؟ من نحن؟ أليس الأولى لنا أن نحرص على تطهير قلوبنا من الأحقاد والشرور، بدلاً من أن نقوم بتوزيع تأشيرات الدخول إلى النار على خلق الله بهذه الصورة الممجوجة؟

إنه لمن الإجحاف الكبير أن يزرع إنسان الابتسامة على وجهك لمدة خمسين سنة، منذ أن كنت طفلاً تستكشف الابتسامة وتختبر الضحكة، ثم عندما يموت هذا الإنسان، تستكثر أن تقول : "رحمة الله عليك". الإسلام دين عظيم فلا تُزهد الناس فيه بحماقاتك.

رحمك الله يا أبا عدنان، عشت سعيداً ومُت عظيماً، وودعتك الجموع برسائل المحبة. إنها رسائل مستحقة عن جدارة، فأنت من ابتدأ بإرسال ورود المحبة، وأنت من ابتدأ بزراعة الضحكة، ثم ختمت رحلة الحياة بزيارة للمرضى الذين يقيمون معك في نفس المستشفى لترسم الابتسامة على وجوههم، لأنك تعرف حجم اللذة عندما تغرس الفرح في قلوب الآخرين.