مقاتلون من قوات سوريا الديمقراطية على مشارف الرقة.(أرشيف)
مقاتلون من قوات سوريا الديمقراطية على مشارف الرقة.(أرشيف)
الثلاثاء 15 أغسطس 2017 / 19:32

قتال دون معركة في الرقة

يمكن أن يستمر هذا النوع من القتال لفترة طويلة، حتى لا نقول "معركة بلا نهاية"، دون تماس مباشر بين المهاجمين و"المدافعين"، بل بسياسة الأرض المحروقة، والدقة الموصوفة في إصابة ملاجئ المدنيين

يردد الإعلام الحربي لـ"قوات سوريا الديمقراطية"، منذ أيام، أنه حاصر داعش من جهتي الشرق والغرب في أحياء مدينة الرقة، دون تفاصيل عن الأحياء التي سيطرت عليها "قسد". لكن إعلام "قسد" استدرك أن المعركة قد تستمر ثلاثة أشهر.

هذا الكذب الصريح يدركه أبناء الرقة فقط، فالمدينة الصغيرة تتكون من 26 حياً رئيساً متفاوتة المساحة بطبيعة الحال، بمساحة إجمالية تبلغ 31 كيلومتراً مربعاً، ضمن المخطط التنظيمي (..)، أي أن مساحة الرقة تبلغ سدس مساحة الموصل البالغة 180 كيلومتراً مربع.

تبسيط الفكرة يقود إلى أن زمن "معركة الرقة" كان يجب ألا يتجاوز 45 يوماً بالقياس إلى زمن معركة الموصل (الهجوم على الرقة بدأ في 6 يونيو/ حزيران الماضي)، أي كان يجب أن تكون "قسد" قد سيطرت على المدينة منذ أكثر من أسبوعين. أما تقديرات عدد الدواعش فيها (1500 وسطياً مقابل 6000 من تقديرات عدد الدواعش في الموصل في أكتوبر عند بداية المعركة هناك)، تجعل الزمن المقدر لـ"معركة الرقة" ربع المدة التي استغرقتها معركة الموصل.

هذا مع الإشارة إلى تشابه جغرافية المدينتين من حيث الطبيعة السهلية وشبه تطابق ارتفاع المدينتين عن سطح البحر (223 متراً فوق سطح البحر بالنسبة للموصل، و245 متراً بالنسبة للرقة). لكن الأهمية المعنوية للموصل بالنسبة للدولة العراقية، وبالنسبة لداعش، أكبر بكثير من أهمية الرقة. يضاف إلى ذلك العدد المضاعف لسكان الموصل (1.2 مليون نسمة) مقارنة مع الرقة.

ونظراً للنزوح الكبير لسكان المدينة قبل الهجوم مباشرة، وأثناءه، يمكن القول إن ادعاء "قسد" أن داعش يتمترس خلف السكان المدنيين فكرة مبالغ فيها. فآخر التقديرات تقول إن من بقي من المدنيين في الرقة، بمن فيهم النازحون إليها من محافظات أخرى، قد يصل إلى 20 ألف نسمة، فيما لم يتراجع عدد الدواعش المتمسكين بالسيطرة على المدينة عن بضع مئات لا تصل إلى ألف.

أما مبرر المبالغة بالتمسك بفكرة التترس الداعشي فهو اتخاذ الذريعة لمدفعية قسد، ولطيران التحالف، لاستمرار قصف المدينة، على الرغم من ادعاء المهاجمين أن سبب بطء تقدمهم هو الخوف على حياة المدنيين.

من جهة داعش، فقد ارتخت قبضته الأمنية على المدينة منذ بدايات أبريل (نيسان) الماضي، ما سهل نزوح المدنيين، لكن عدداً كبيراً من النازحين وقع في مصيدة ألغام داعش وقناصته، إضافة إلى قناصة قسد، وطيران التحالف الذي يتكرر استهدافه للسيارات الخارجة من المدينة بشكل شبه يومي. دون أن ننسى حالات الغرق عند محاولة اجتياز نهر الفرات بقوارب صغيرة.

على الرغم من ذلك، لا يمكن نفي فكرة تترس داعش بالمدنيين كلياً، ففكرة داعش الدائمة أن عناصره يضحون بحياتهم في قتال "الكفرة الخنازير" ولا يسمحون بهروب السكان المدنيين بحجة المحافظة على حياتهم.

وبالعودة إلى ادعاءات إعلام "قسد"، نشدد على فكرة احتكارهم للتصريحات، دون وجود أي إعلام محترف، أو مستقل، ينقل الواقع على الأرض بشكل يومي، ويرصد تقدم القتال، أو تراجعه، حسب تكتيك "المدافعين"، والمهاجمين، حيث ظل القتال طوال الأسابيع الأربعة الأولى فرَّاً من داعش في النهار، وكرَّاً منه في الليل، بمعنى أنه يخسر في النهار، ويستعيد ما خسره في الليل، ليعود القصف المدفعي، وقصف الطيران، في اليوم التالي إلى النقاط التي انتهى عندها في اليوم السابق. وكترجمة لهذا الواقع، يدرك داعش أن تميزه هو في الهجوم، وليس في الدفاع، وبالتالي يمكن توقع أنه كان ينسحب في النهار، ويهاجم في الليل، بينما لا يبدو تقدم "قسد" في النهار سوى محاولة لملء الأرض المحروقة التي مهدتها المدفعية وصواريخ الطيران.

بهذا المعنى، يمكن أن يستمر هذا النوع من القتال لفترة طويلة، حتى لا نقول "معركة بلا نهاية"، دون تماس مباشر بين المهاجمين و"المدافعين"، بل بسياسة الأرض المحروقة، والدقة الموصوفة في إصابة ملاجئ المدنيين، بحيث تسقط حجج التترس الداعشي، كما تسقط حجة حماية المدنيين من جانب قسد.

وحتى ينقشع غبار القتال في الرقة، الذي لن يصل إلى درجة معركة مطلقاً، على غرار ما حدث في الموصل، ستصعب معرفة مجريات القتال في الرقة بين قسد وداعش، كون المصدرين الوحيدين للأنباء الآتية من هناك هما إعلام القوات الكردية، وقنوات داعش الإعلامية.
فالقتال في الرقة، وفي ديرالزور مستقبلاً، ومن قبلُ في كوباني، ومنبج، وتل أبيض، ثم في منبج، وفي الموصل، كان بالقصف والتدمير من بعيد، وبالعمليات الانغماسية، ثم هروب ما تبقى من داعش إلى مناطق أخرى تحت سيطرة التنظيم. وبالطبع، عندما تقصف مواقع داعش في وسط يسكنه عشرون ألف مدني، لا بد أن تقتل ولو بالصدفة عدداً من الدواعش، لكنك ستقتل من المدنيين عشرة أضعاف.
واستناداً إلى تقديرات نشرتها صفحة "الرقة تُذبح بصمت" على فيسبوك ترصد الفترة ما بين 9 يونيو (حزيران) و8 أغسطس (آب)، فإن 946 مدنياً قتلوا في الرقة، يضاف إليهم أكثر من جريح، دون ذكر عدد قتلى داعش، كون ذلك يختص بإعلام التنظيم.

أما من جانب "قسد"، والقوات الكردية، فإن الأعداد التي يتم تشييعها في تل أبيض، تحديداً، قليلة، ولا تتعدى تشييع قتيل واحد كل أسبوع. وهو مؤشر دال على أن "المعركة" تتم عن بعد، كما جرى الأمر في الموصل، وفي المعارك التي سبقتها في العراق، أو سوريا، ضد التنظيم.

وفي النتيجة، يمكن ترجمة فكرة محاصرة قسد لداعش من الشرق والغرب بأن التدمير يتقدم من الجهتين الشرقية والغربية، وأن العمل جار لتدمير ما تبقى من المدينة، وقتل من تبقى فيها من المدنيين، ومن فيها من داعش.